نقوش على قبر الوطن

مبدع من الزمن الجميل

توثيقي للفن السوداني

سليمان عبد الله حمد

سودان الغد ... نقوش على جدار الوطن !!!

ندلف اليوم إلى خاطرة كتبها الدكتور / على حامد إبراهيم يقول فيها ... اكتب اليوم هذه الخاطرة التي يمتزج فيها العام بالخاص عن بعض لوحات تاريخية مضيئة من التاريخ الشعبي السوداني عشتها في لحظة انبثاق فجر السودان الحر المستقل الذي يتضاءل الأمل في الوقت الحاضر في الاحتفاظ به في صيغته القديمة التي بذل السودانيون جميعا الغالي والرخيص في الوصول اليها. وهي لوحات غفل عنها التاريخ الرسمي، ربما لأنها حدثت في اجزاء السودان الطرفية البعيدة عن مساقط النور والحضارة. ومثل الكاتب والروائي الجنوب افريقي ( ألان بيتان) الذي دفق شعوره ووجدانه في روايته الخالدة «اهتف معي :فليحيا الوطن العزيز» عندما رأى كيف اضاعت العنصرية البغيضة وطنه المحبوب باضاعتها لقيمة الانسان فيه. مثل ( ألان بيتان ) اصيح في المدى، واصرخ في وجه المستحيل للوطن العزيز لكي يبقى ويحيا مثلما تركه لنا الاجداد. وان اصبح ذلك الامل بعيدا اليوم، فليس أقل من أن نحتفي ببعض وقفات من التاريخ الشعبي، الخاص منها والعام، نستجلي منها نقاط القوة التي اضعنا، ولحظات العشم الذي بددنا. اكتب هذا اليوم في وقت لم اعد فيه قادرا على الكتابة في أي موضوع لا يتصل بالشأن السوداني هذه الايام بسبب ارتفاع حرارة جو الاستفتاء في جنوب السودان الذي يهددنا بأخذنا جميعا الى محكمة التاريخ، ان لم يرسلنا جميعا الى مزبلة التاريخ ...

تعاورني هواجسي وظنوني ومخاوفي على مصير النسيج الاجتماعي المتمدن والمتعايش الذي فتحت عليه عيني في واحدة من اماكن مناطق التماس القبلي بين الشمال والجنوب في شمال اعالي النيل - مركز الرنك المحادد لمركزكوستي والتي كانت يمكن ان تكون نموذجا لسودان تتكامل وتتوحد اطرافه بدلا مما يجري اليوم من محاولات لتمزيقه موجدة مما جاء به بعض السفهاء منا. ولكني ابدأ الحديث من أوله ...

كنت صبيا نشأ وترعرع في كنف القبيلة العربية الاكبر في منطقة التماس بين الشمال والجنوب الواقعة على الحدود بين مركزي كوستي والرنك...

وشاهدت وعرفت، في حدود ادراكي المحدود لطبيعة الاشياء بحكم سني الصغيرة وقتها، كيف ولماذا تمازج الانسان الجنوبي مع اخيه الانسان الشمالي في تلك المنطقة. وكيف بنى الطرفان تمازجا اجتماعيا راسخا، فرضته وحتمته المصالح المشتركة للمتواجدين في ذلك الحيز الجغرافي المحدد تعلقت بالرعي المشترك، وبمصادر المياه المشتركة، ومسارات القبائل العربية المتنقلة عبر مناطق القبائل الجنوبية المستقرة، و ما اتاحه ذلك التنقل البدوي العربي من تلاقح اجتماعي وثقافي، وتبادل تجاري، رغم حجمه المحدود،كان داعما قويا للتلاقي الوطني. المنافع المشتركة، وحاجة كل طرف للطرف الآخر من أجل تسهيل العيش المشترك في المنطقة الطرفية التي عرفت دائما كيف تحافظ على مصالحها بوسائلها المحدودة، ولا تنتظر السلطة المركزية لتفعل لها ذلك...

كان «قانون المناطق المقفولة» مازال يعمل بقوة ضد التلاقح بين الطرفين. وقانون المناطق المقفولة ...

اصدره الانجليز في عام 2291 «لتكريس عزل القبائل الجنوبية عن القبائل العربية المجاورة لها ذات الثقافة الاسلامية العربية باستخدام كل الوسائل الادارية والثقافية والاقتصادية للحد من انتشار نفوذ شمال السودان العربي - المسلم بين القبائل الجنوبية» كتاب : جنوب السودان، جدل الوحدة والانفصال، لمؤلفه الدكتور عبد الماجد بوب – 9..2 ...

ورغم ان السودان كان على مرمى حجر من الاستقلال من دولتي الحكم الثنائي، مصر وبريطانيا، في الفترة التي يعالجها هذا المقال القصير إلا انني شاهدت بأم عيني وانا صبيي واع،كيف ظل قانون المناطق المقفولة ساريا حتى ذلك التاريخ، وبقوة ضد القبائل العربية التي كانت تعيش في مناطق التماس، وضد كل الشماليين الذين كانوا يحاولون دخول الجنوب للتجارة ولغيرها.فقد كان الخوف الاستعماري منطلقا من امكانية تأثر القبائل الجنوبية بثقافة وعادات وديانة القبائل العربية. ولهذا السبب ظلت السجون في مناطق التماس القبلي تستقبل المحكومين من القبائل العربية من الذين ترى الادارة البريطانية المحلية انهم يتعدون قواعد التواجد في مناطق التماس القبلي المشترك باقامة نوع من العلاقة مع الجنوبيين، او مع أي افراد من القبائل الجنوبية بصورة لا يسمح بها القانون.و كانت المحاكمات تطال الشماليين دون الجنوبيين باعتبارهم منتهكين لحدود الجنوب، بينما كان النصح فقط يقدم للحنوبيين المتورطين في انتهاك القانون بالتعامل مع الشماليين. كانوا ينصحون بالابتعاد عن الشماليين ابتعادهم من الاجرب السقيم ...

ولقد شهدت وانا طالبب في المدرسة الاولية بمدينة القيقر، مركز الرنك، محاكمة أبي شيخ القبيلة العربية الوقور بتهمة خرق قانون المناطق المقفولة وارساله الى السجن لمدة شهر بعد ان خفضت محكمة عمدة مدينة الرنك برئاسة عمدة قبيلة الدينكا الشيخ لول الحكم من ثلاثة اشهر الى شهر واحد، ضاربة العرض بتشديدات مفتش المركز الانجليزي ضد الشيخ العربي. وكانت جريمة أبي مزدوجة في نظر المفتش. فهو قد جهز قافلة كبيرة من رجاله و اخترق الحدود ليشتري كميات كبيرة من الذرة لعشيرته التي كانت تعاني من نقص في المؤن بسبب الجفاف. فعل ذلك وهو يعلم أنه شيخ من شيوخ الادارة الاهلية يتحتم عليه احترام القانون اولا. وتنفيذه ثانيا ...

كانت لحظة اعتقال الشيخ ورجاله لحظة طريفة. فقد كمن المفتش مع مجموعة من «شرطة السواري» للقافلة في منهل للمياه كان يقع قريبا من مدينة الرنك، لعلمه ان القافلة لابد لها ان تتزود بالماء من ذلك المنهل وهي في طريق عودتها نحو البوادي العربية. اخذ المفتش يستجوب المقبوضين الواحد تلو الآخر. يسأل عن اسم المقبوض، واسم البادية التي يتبع لها، واسم شيخه. وعندما جاء الدور على الشيخ الوقور نظر المفتش في هيئته وفي هندامه البدوي المرسل، وفي تعامل افراد القافلة معه باحترام لافت للنظر. تقدم المفتش من الشيخ وسأله عن اسمه، واسم باديته، واسم شيخه. وكانت المفاجأة للمفتش أن الشيخ المقبوض هو نفسه شيخ الادارة الاهلية وشيخ القبيلة الذي من المفترض ان يحترم القانون، ويحض الناس على مراعاة احكام قانون المناطق المقفولة...

انفعل المفتش للفتح الكبير الذي حققه. وصاح بلهجة عربية مكسرة «انا مبسوط. عشان انا قبضت على شيخ الحرامية» وانفجرت القافلة بالضحك من طرافة اللقب الجديد الذي اضافه المفتش الى القاب شيخهم. لقد صار ذلك اللقب ملازما لأبي حتى رحيله من باب الدعابة من قبل اهله وعشيرته.وكذلك من قبل ابنائه واحفاده ...

في محكمة عمدة الدينكا التي انعقدت لمحاكمة شيخ القبيلة العربية بناء على توجيهات المفتش المتشددة رفض عمدة الدينكا لول ان يصدر حكما بمصادرة الجمال والذرة والمؤن الغذائية. وقال ان هذه مؤن يحتاجها الناس في البوادي العربية. وليس هناك جريمة في ان يشتري اي انسان ما يحتاجه من طعام بحر ماله. ولكن لم يكن في مقدور عمدة الدينكا ان ينقذ والدي من السجن بسبب جريمته المزدوجة وان افلح في تخفيض مدة السجن من ثلاثة اشهر الى شهر واحد ...

منذ تلك اللحظة عرف المفتش أن رياح الحرية قد هبت بالفعل نحو الديار السودانية. شهور قليلة مضت على هذه الحادثة قبل ان يغادر المفتش السودان نهائيا الى بلاده ...

ولا يمكن لأحد في كل مناطق مركز الرنك أن ينسى ذلك اليوم الذي تقاطرت فيه الجموع الجنوبية من كل حدب وصوب نحومدينة الرنك وهي تحمل العلم السوداني الجديد وتغني وترقص في مواكب هادرة تحية واستقبالا لمفتش مركز الرنك السوداني الذي «سودن» وظيفة المفتش الطاغية. ووقف عبد السميع غندور، طويلا ونحيفا ومنتصبا مثل السارية المنصوبة امام مكتبه الجديد. وقف بجوار السيد محمد عثمان ياسين، مدير مديرية اعالي النيل الجديد وكان هو الآخر ينضح نضارة وبهاء. وقريبا منهما وقف السيد النذير حمد، مأمور مركز الرنك الجديد الذي سودن وظيفة المأمور المصري. لقد كانت فرحة المواطنين الجنوبيين بذلك الثالوث الوطني الشمالي الذي سيضطلع بمهام بناء وطنهم الجديد، فوق كل تصور. لم يحتج احد بأنهم جميعا كانوا من الشمال. لأن امراض الجهوية و الاثنية والعنصرية لم تبدأ في الظهور والانتشار بعد. وكان علم السودان الموحد يرفرف فوق البيوت والمكاتب، وينحني له الجميع تحية واحتراما. ولم يقل واحد منهم انه استقلال مغشوش اومزور او ناقص ثم كان ما كان في قادم الوقت والاوان. اصبحنا نمسي ونصبح على مهاترات الشريكين اللذين يبدوان وكأنهما ينفذان مؤامرة مشتركة ضد وحدة السودان، كل بطريقته الخاصة. يضيعان الوقت الثمين في مناقشات لا تنتهي حول مسائل اجرائية فقط لأن اتفاقية السلام كانت قد حسمت كل الامور الجوهرية. حتى اذا أزف الوقت طفق الشريك الاكبر يتحجج بضيق الوقت بشأن الالتزام بموعد تنفيذ الاستفتاء. ورد الشريك الاصغر برفض التأجيل حتى لساعة واحدة. وهدد بالوصول الى استقلال الجنوب بوسائل اخرى. ومعروف انه ليس هناك وسائل اخرى غير وسيلة واحدة هي اعلان استقلال الجنوب من داخل البرلمان الجنوبي. واذا قام الشريك الاصغر بهذا الاجراء، فهذا يعني اندلاع الحرب. لأن الشريك الاكبر سوف يرفض قرار اعلان الانفصال من داخل البرلمان لأن اتفاقية السلام نصت على اجراءات محددة ليس من بينها اعلان الاستقلال من داخل البرلمان. وسوف يتمترس كل جانب خلف موقفه المعلن. وعندما تتدامج المتاريس فلن تحركها الا الآليات العسكرية. وهنا يكون شعب السودان قد عاد الى أكل الحصرم مجددا بعد طول صيام ...

معروف أن لكل طرف جوكية وزمارين ينفخون في قربهم الموسيقية. الانقاذ معها كل الذين اغلقوا بصرهم وبصيرتهم على صورة للوطن الذي يريدون. كان هذا الاغلاق نهائيا وببرشامة غير قابلة للفتح او التبديل ...

وليس مهما كل ما يمكن أن يحدث غدا او في قابل الزمن اذا كان لا يمس مقاعدهم الوثيرة في منتدى الحكم النضير. لا أحد يعرف ما سوف يحدث غدا ..

ولكن الجميع يعرفون أن الدوام لله وحده. ويعرفون اكثر انها اذا دامت لغيرك ما وصلت اليك ...

الشريك الاصغر يقف من خلفه كل صاحب غبن او ثأر ضد الشريك الاكبر

وأهل الثأرات هؤلاء، من كثرتهم، لا يمكن أن تحصيهم حتى الآلات الحاسبة ! هؤلاء على استعداد ان يدحرجوا الجمل بما حمل في الهاوية. لا يعرفون فرقا بين معارضة الوطن او معارضة نظام معرض للذهاب بطبيعة الحال مهما طالت سلامته ...

لقد كان الظلم اكبر وكذلك كانت المرارات. لقد صغرت صورة الوطن في نفوس ووجدان البعض. والله يجازي الذي كان سببا في وصولنا الى هذا الدرك الاسفل ...

ويبقى السؤال : هل انتفى وجود مثل ذلك التمازج الذي كان حادثا بين الجنوبيين والشماليين في مناطق التماس الذي اشرت اليه في فاتحة هذا المقال. ان كانت الاجابة بنعم، فهي مصيبة وقارعة. وان كانت بلا، فهناك أمل. ولا بأس من الأمل. فقديما قال الشاعر  :

ما اضيق العيش لولا فسحة الأمل ...

وأقول من عندي لأهل السودان كما قال (ألان بيتان ) لأهل جنوب افريقيا : اهتفوا معي، فليحيا الوطن العزيز  ...

بعد أن تمزق سودان اليوم (وكل حزب لما لديهم فرحين !!! ) بأمس القريب دولة جنوب السودان وغداً ... يا لخوفي من غدي ... ربما تكون دولة غرب السودان وكذلك دولة شرق السودان ودولة شمال السودان وربما دولة الأقليم الأوسط وكذلك دولة العاصمة القومية ... فالكل له حق في الإنفصال والتقسيم وله الحق في النفط والسلطة والذهب وربما الهوية الوطنية ... عجباً لهذه الأبعاد السياسية التي تفرق ولا تجمع  ولا تقبل بالرأي الآخر ... , إلى أن يحين اللقاء لكم أصدق مودتي أحبتي ...

ولكن الآمل معقود على طلائع جيل الغد .. من خريجي الجامعات والمعاهد العليا التي تربت بعيداً عن تلك الاتجاهات الفكرية والسياسية المحدودة التفكير التى لا تفكر إلا بفكر الماضي بأن تكون لها الثروة والمال والكسب غير المشروع  وربما تعليم أولادهم خارج سرب الوطن ...

هذه نظرة فيها كثير من التفاؤل لسودان الغد الموحد المشرق ... وسوف يحمل مشاعله هذا الجيل القادم من بعيد يحمل مشاعل النور والتفاؤل والأمل ...  ويحمل شعار السودان فوق مصالح الجميع ... فنحن نعيش في السودان ولكن السودان يعيش في دواخلنا ... نأمل أن يتحقق ذلك تحت ظلال الغد المنشود وحينها نقول ( فليحيا الوطن العزيز ) ...

ولنا وقفات قادمات مع هذا الشوق المتدفق نحو سودان الغد وأهله ... لكم صادق مودتي حتى يحين اللقاء أحبتي...