سفرةٌ وخواطر
صالح محمد جرّار/جنين فلسطين
امرؤٌ سارت به عجلة الزّمن ثمانين حولا حتّى الآن ،وخطّ قلم القدَر في كتاب عمره ما خطّه من أبواب وفصول . وهبّت عليه عواصف الزّمن ورياحه ، فحملتْ إليه ما حملتْ من خير وشرٍّ، كما قدّر له ربّ العالمين. فتراه حيناً مشرق الوجه بنور السّرور والطمأنينة ، وتراه أحياناً كثيرةً متجهّمَ الوجه ،تعلوه مسحة الأسى وظلام الكآبة ، فلا يدري غيب قدره أشرّاً أُريد به ، أم أُريد به خيراً ؟!
وحين يبتسم له القدر ، يدوّن في كتاب عمره ما يهبُ حياته نضرةً وإشراقاً، ومتعةً تُجري في العروق نشوةً ولذّةً ، فتقرّ عينه بما تبصره من جمال رياحين الجنّة ، وما تجده من متعة وسعادة في الحياة معها ، وهي تنفحه بأريج الطّفولة الطّاهرة البريئة ،في ظلال الأبوين الحبيبين ،ويعزف السّرور على أوتار القلب ألحان السّعادة ، وتنشد الرّوح الأغاريد ،فتطرب لها الأيّام ، وتحفظها في شريط الذّاكرة كيلا يطويها النّسيان !!
ثمّ تسير عجلة الزّمن بهذا الإنسان ، فيتعثّر جريها بما تلقاه في دربها من صعوبات قاهرة تشيع التّوجّس ، وتثير القلق والاضطراب ، فيجد الشّيطان مدخلا له إلى النّفوس ، ويحتدم الصّراع بينهما ، وتكون الحرب بين كرٍّ وفرّ ، وانتصارٍ وهزيمة ، حتّى يأذن الله بالفرج، فتخفق رايات الحقّ ، ويعلو هتاف الإيمان ، وتشتدّ عزيمتّه ، فيخنس الشّيطان ، وتتنكّس أعلامُه ، ويهيّئ الله – سبحانَه – مَن يعين على الزّمن وصروفه ، ويمهّد الطّريق ، ويأخذ باليد ، ويهدّئ النّفس ، ويطبّب القلب بما وهبه الله من شمائلَ طاهرةٍ طُهرَ روحه ،وخصالٍ مؤرّجةٍ بأريج قلبه ، وهمّةِ عاليةٍّ علُوَّ طموحه !!
ومَن يكون هذا سوى فلذة كبده ،وقرّة عينه ، ورجاء قلبه ،ذلك هو ولده الجبيب محمّد أبو صالح !! فها هو يقود مسيرتنا لأداء العمرة في أوّل بيت مبارك وُضع للنّاس في مكّة المكرّمة، إنّه المسجد الحرام الّذي جعله الله مثابة للنّاس وأمنا ، إنّه المسجد الّذي يحضن الكعبة المشرّفة، قبلة المسلمين في شتّى بقاع العالم، الكعبة الّتي زيّن الحجر الأسود أحد أركانها ، ومنه يبدأ طواف الطّائفين ، ويتنافس في تقبيله المتنافسون من غير مدافعة ولا مشاحنة ولا سوء معاملة !
وإنّ وجودك بين الطّائفين والرّكع السّجود ، لَيسمو بك إلى آفاقٍ عليا من الإيمان والخشوع لله - تعالى – وإنّك لَتذكرُ هناك ، وأنت تلتفّ بثوب الإحرام – تذكر يوم البعث والنّشور ليحاسب الله - تعالى – الخلق بما عملوا في الحياة الدّنيا ، ففريق في الجنّة ، وفريق في النّار ، فنسأل الله - عزّ وجلّ – النّجاة من النّار ، والفوز بالجنّة مع الأبرار !!
وإنّك لترى هناك من آيات الله ما ترى " ومن آياته خلق السّماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إنّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين " !!
فترى هناك الأبيض والأسمر والأحمر والأصفر في تفاوت درجات الألوان ، كما تسمع شتّى اللغات واللهجات ، فلكلٍّ لونُه ، ولكلٍّ لسانه ،فسبحان الخلاق العظيم !! ويجمع بين هؤلاء الوافدين إلى المسجد الحرام عقيدة التّوحيد لرب العالمين ، والخضوع والتذلل له - سبحانه وتعالى - ، وكلٌّ يسأل المولى – عزّ وجلّ - المغفرة وحسن الختام ، والفوز بالجنة بسلام ، كما يسأله من الخير كلّه عاجله وآجله ،إنّه على كل شيء قدير !.
وكم من عبرةٍ وموعظةٍ تقرؤها في كتاب الزّمن وأنت تؤمّ البيت الحرام معتمراً أو حاجّاً أو مصلّياً ، فحين تشرب من ماء زمزم ـ يحكي لك قصّة إيمان عظيمة ، قصة خليل الرّحمن ، إبراهيم - عليه السّلام - وزوجته سارة ، وولده اسماعيل حين وضعهما وحيدين ، في واد غير ذي زرع عند بيته المحرّم - سبحانه وتعالى –
كما يروي لك كتاب الأيام أنّ القوّة لله جميعا ، وأن ّ الله غالب على أمره ، وله جنود السماوات والأرض ، فأهلك أبرهة الحبشي الّذي أراد هدم الكعبة المشرّفة ، فقاد جيشه بعنجهيّة وكبرياء ، واستعان بأبي رغال الذي خان قومه ، ورضي أن يكون دليل أبرهة العادي على بيت الله الحرام ، فأهلكهم الله جميعا بأسراب من ضعاف مخلوقاته " ألم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ،ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجّيل ، فجعلهم كعصفِ مأكول
وهكذا تحققت كلمة عبد المطّلب ، حين قال : إنّ للبيت ربّاً يحميه !!
كما يروي لك كتاب الزّمن قصّة سيّد الأنبياء ، وخاتمِ الرّسل محمّدٍ - صلّى الله عليه وسلّم - ،ويسترجع لك شريط أحداث نبوّته ورسالته ودعوته إلى الله - تعالى – في قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله ، ويروي لك قصّة جهاده ، حتّى جاء الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا !!
يا لَله ما أزكى الزّمنَ الّذي تقضيه في البيت الحرام بجوار الكعبة المشرّفة ، تستذكر الزّمن بأحداثه الواعظة المعبّرة ، وتطهّر نفسك وفكرك من أدران الحياة ، سائلاً المولى - عزّ وجلّ التّوبة والمغفرة فتُطهّر نفسك من أدرانها وخطاياها بدموع النّدم والتّوبة النّصوح ، وتصل حبلك مِن جديد مع الله الغفور الرّيم التّواب الكريم ، فتحلّق في آفاق الرّوحانيّة والعبوديّة الصّادقة لله الواحد الأحد الفرد الصّمد الّذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفُواً أحد !!
إنّها لساعاتٌ مضت سريعاً كلمحٍ بالبصر ، ولكنّها ساعات عبادةٍ صادقةٍ مباركةٍ مشرقة وضيئة ، نرجو أن تضيء لنا الطّريق يوم الحساب " يوم لا يُخزي الله النّبي والّذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، يقولون ربَّنا أتمم لنا نورَنا ، واغفر لنا ، إنّك على كلّ شيء قدير "
وهل العمر الحقيقي المبارك إلا ما قضّيتَه في طاعة الله - تعالى - وما تقوّيت به حسّاً ومعنى على استمرار الصّلة بالله ربّ العالمين ؟! وبهذا يكون السّير في الأرض والنّظر فيما خلق الله في هذا الكون النّاطق بعظمة خالقه الواحد القدير العزيز القهّار – يكون هذا السّير والتّأمل والتّدبر عبادة وأيَّ عبادة !!
وودّعنا المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة 20\1\2012
والعيون مغرورقة بدموعٍ تترجم تمنياتنا لو يطول بنا زمن اعتكافنا وعبادتنا فيه ، فالرّكعة فيه بمئة ألف ركعة في سواه ، ولكن ليس للإنسان ما تمنّى ،
ما كلّ ما يتمنى المرءُ يدركه تجري الرّياح بما لا تشتهي السُّفُنُ !
وإنّ عزاءَنا أن تبقى الرّوح طائفةً راكعةً ساجدةً لخالقها ! فهي طليقة الجناح ، تحطّ حيثما أراد لها الله أن تكون ، فلله الحمد على كلّ حال ، وجزى الله عنّا ولدَنا الحبيب كلَّ خير ، فهو الّذي حمَلَنا بجناح بِرِّه ، ونبضِ حبّه ، وصدق إحساسه ومشاعره ، وحطّ بنا في المسجد الحرام ، فأدّينا عمرةً مقبولةً - إن شاء الله تعالى - !!
ثمّ هيّأنا أنفسنا للسّفر إلى جدّة عروس السّعوديّة على البحر الأحمر ، وودّعنا غرفتنا في الدّور الثّالث والثّلاثين من فندق زمزم ، وحملنا ذكرياتنا في خزائن أذهاننا ونبضات عروقنا ، مترجمةً بقليل من الصُّور التقطناها ، فتُري ومضةً من ومضات زمن يسير مبارك قضيناه
في المسجد الحرام !!
ثمّ وصلنا جدّة ، ونزلنا في غرفتين مطلتين على البحر في فندق هلتون ، القريب من مسكن ولدنا محمّد حين كان يعمل في المستشفى التّخصصي في جدّة عام ألفين وثلاثة ، ولذا فإننا إدرنا شريط الذّكريات الأولى في جدّة ، حين زرت وابنتي نسرين ولدنا الحبيب محمّد وعروسه غادة ، وكم سعدنا يومئذ بلقاء الأحبّة وكريم ضيافتهم ، وها هي زيارتنا الجديدة هذه تعيد لنا جمال تلك الذّكريات ، وانطلقنا نجدّد ذكرياتنا على شاطئ البحر ، وهناك صافحت أعيننا ما قد زرناه من قبل ، كالمسجد الّذي يحضنه البحر مسبّحاً بحمد الله خالقه حمداً لا يفتر ولا ينتهي !! وبما أنّ وقت إقامتنا في جدّة قصير ، فقد أراد ولدنا الحبيب أن يُرَوّح عنّا شيئا من هموم حياتنا ،وينسينا بعض ما يغشانا من أسى بسجن ولدنا الحبيب إسلام المحكوم تسعة مؤبّدات وفوقها سبع سنين ، فلعلّ البحر والتّأمل فيه ، يريح قلوبنا وأفكارنا ، فانطلقنا عصر يوم الأحد إلى استراحة تدعى - كنز أبحر - على شاطئ جدّة ، وهناك ركبنا قارباً خاض بنا عباب البحر ، وشاهدنا عظمة الله – سبحانه - في هذا البحر الّذي سحّره الله للإنسان ، فجرت فيه الفلك كبيرها وصغيرها بما ينفع النّاس ، ولكن الإنسان الباغي يسخرّها أحيانا كثيرة للشرّ والعدوان ! فيا لعظمة الله وقدرته ! ويا لَروعة جمال خلقه ! ،وكم في جوف البحر من مكنونات وأسرار ! وكم في التّأمل فيه وقراءة كتابه من عبر ومواعظ ودروس ! فسبحان الخلاق العظيم !
وقضينا زمناً قصيرا على متن القارب الخائض بنا عباب البحر ، والموج يتلاطم من حولنا ، وزبده يهتف بنا أن سبّحوا بحمد ربّكم العظيم القدير الّذي سخّر لكم هذا القارب فركبتم به البحر ، وشاهدتم آية عظيمة من آيات الله المبثوثة في هذا الكون العجيب ، فسبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ، وإنا إلى ربّنا لمنقلبون !!
وامتزجت بهجتنا بركوب البحر بسرور أحبّتنا بنا ، وكم حلّق بنا السّرور ، حين قاد القارب حفيدنا صالح وحفيدتنا رجاء بإشراف ربّان القارب ، وكان ضحكهما يعلو كلّما تظاهرنا بالفزع وطلب النّجدة ،ومطالبتهما بعدم الإسراع الذي جعلنا نستحم بدفقات ماء البحر علينا،
وقد ترجمت بعض الصّور جزءاً يسيرا من سعادتنا المجنّحة بذكر الله - تعالى وتسبيحه ، ثمّ عاد بنا القارب ليرسو على شاطئ السّلامة ، والحمد لله حمدا كثيرا على ما منّ وأعطى ، وقدّر الله - تعالى - أن يتصل بنا الحبيب إسلام ،ونحن نتأمّل البحر ، فدعونا الله - تعالى - أن يمن عليه بالفرج القريب ، فيركب البحر مع أولاده كما ركبناه مع أحبتنا اليوم ، وما ذلك على الله بعزيز !!
ثمّ تهيّأنا للعودة إلى مدينة الرّياض عبر الجو ، ووصلناها سالمين بحمد الله ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين !!