سوريةُ يُضنيها أنها لم ترانا بعد
أنس عمر
سوريةُ اليوم، غير أي يوم، وكأني بها تقف وقفة الأم المشتاقة على باب بيتها مستقبلةً أبنائها المغتربين، سوريةُ اليوم وهي الأم التي لديها ملايين المغتربين، مئات الآلآف من المشردين، عشرات الآلاف من المفقودين، الآلاف ممن حرموا حق المواطنة وهم يعيشون في حضنها، المئات والالآف من المعتقلين من شتى المنابت والفصال، ملايين ممن تحت خط الفقر، ملايين من الشباب يعانون شبح البطالة، الفساد مستشري بكافة أنواعه المعروفة منها عالمياً والتي لم يصل العالم لشرف مذلة معرفتها، هي إبتكار بعثيٌ سوريٌ أصيل، الرشوى والفساد مستشري بين أبنائها بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فحوى الأمية والجهل تضارب قطرها من أقصى جنوبها إلى شمالها، المحسوبية هي في سورية بكل أبعادها منذ أصغر موظف في السلطة إلى أعلى هرم في النظام، يُكافأ المستبد والمفسد برتب أعلى ومكافات مجزية، وبذلك كل ما تصاعد بالموظف الأمني الرتب، يكون تصاعد عمودي في الفساد والاستبداد، لا شئ في العالم مثيلٌ لما يجري داخل سورية.
لذلك نقول، وبحسب ما نراه، سوريةُ اليوم غير أي يوم، هي اليوم تقف على أبواب تغيير تاريخي، تغييرٌ جاء من حيث لم يتوقع النظام، منذ درعا الحدودية التي لم يعبأ لها النظام على مدى عقود بأي حق لإبنائها في العيش الكريم المحترم، إلى اللاذقية التي اعتبروها منذ عهد معلمتهم فرنسا عاصمةً لدولتهم، إلى الريف السوري الذي لطالما اعبتروه مصيفاً ومهرباً لهم من ضغط العمل في دمشق، اليوم الريف الدمشقي يكشف لهم مصيفاً غير الذي عهدوه وألِفوه، هو مصيف للحرية والتضحية وبذل الدماء في سبيل الوطن، حتى الأكراد الذي أرادوا تنحيتهم عبر خداع ما يسمى بإعادة إحصاء لهم من أجل الجنسية، لم تمشِ عليهم مثل هذه الخدع التي عهدها منذ عقود، وهم الذين يعيشون وكأنهم (بدون) في أرض أجدادهم وآبائهم، وهم أبناء صلاح الدين الأيوبي الذي أقام على هذه الأرض دولته وببعض بجيش حطين.
اليوم سوريةُ تقف على بوابة حدودها براً وبحراً وجواً، لتقول لكل لإبنائها المغتربين: "أمكم سورية يُضنيها أنها لم تراكم بعد، يضنيها فراقكم كما يضنيها البُعد عنكم، "، يضنيها أنها في دولة مثل سورية تعداد سكانها 22 مليون نسمة، يُقام وزارة خاصة (وحيدة في العالم) اسمها وزارة المغتربين السوريين، لتقوم بإحصاء المغتربين السوريين حول العالم، فتجد أنهم ما بين 12-15 مليون مغترب، حتى ولكأنها (وزارة المغتربين السوريين) من خلال إحصائياتها تكاد تجزم أنه لا يوجد بلد في العالم إلا وفيه مغتربين سوريين، هما يقومون بعمل وزارة خاصة للمغتربين اسمها (وزارة المغتربين) ولا يقومون بمحاولة التفكير (مجرد التفكير) لإيجاد حل جدري لمشكلة اللاجئين (وليس المغتربين) السوريين، ونسميهم لاجئين، لأن شيخاً خرج من بلاده دونما أي سبب ليجد نفسه بعد ثلاثين عاماً في كل بقاع الأرض، هو صار في الواقع لاجئ لا مغترب، كما أن طفلاً ولد في المنفى ليجد نفسه ممنوعاً من دخول بلده بدعوى أنه أحد أجداده قد رفع في يوم من الأيام شريعة الله فوق الأرض هو لاجئ بكل معنى الكلمة، ولإن كردياً قد وجد نفسه محروماً من وطنه، لا لجرم ارتكبه إلا لمجرد أنه كردي، والمعلوم أنه لا إنسان يتحكم في أصله وفصله، هو حقيقةً لاجئ ليس مغترب.
اليوم أمنا سورية، تقول لنا جميعاً، نظاماً جاثماً على صدور السوريين، وشعباً مثقلاً بهموم الحياة، ومغتربين محرومين بلا سبب، تقول لهم: "حتى متى، حتى متى، أمكم يضنيها أنها لم تراكم بعد، قفوا معاً في هذه اللحظة التاريخية، وإلا لن تجدوني بعدها"....