شيخ عفيف

عبد اللطيف الحسيني

عبد اللطيف الحسيني

[email protected]

إنه لا ينتهي

أتلصّصُ عليه من درفة الباب أو ثقب المفتاح أو تشقّقات الباب الخشبيّ القديم .

وضعية مقدّسة بالنسبة لي أن أرى امرءاً نائماً  والكتابُ بينَ يديه أو على ركبتيه.

إنّه ليسَ كتاباً صعباً حتى لا ينتهي : تفكّكُ رموزَه و دلالات معانيه ,إنْ رأيته مرّة في الحياة - صدفةً - فسوف يرافقكَ طويلاً في الحياة .إنه كما الكثير : أسماؤهم تدلّ عليهم : أخلاقاً وسلوكاً ,فاسمُه علامة عليه وقد تبرّك باسمه كثيرون ، حين أسموا أبناءَهم باسمه   محبّة به وبمصادقته   وبسلوكه ,وقد ردّ عليهم الشيخُ جميلهم : أعطاهم أعزّ وأبهى ما يملكه : أعطاهم عمرَه .

كأنّه كتابٌ بمقدورك أنْ تؤجّله يوماً -ثلاثة - شهراً . لكن ليس بمقدورك أنْ تهمله .الحياة وحدها كفيلة لتكون قيّماً ولتجعله روحَها المتوثبة الخلاقة ولتؤكد أن الحياة ما كانت تسمّى لولا وجودُه العنيف فيها

ما أجمل الحياة!

و لأجل هذا فإحساسُه بالأشياء والقراءة والكلام و الألوان و الأشخاص  و الأماكن "الأماكن القريبة بمتناول البصر واليد " مختلفٌ إلى درجة أنك تحسّ بهذه العلامات للمرّة الأولى , وكأنك تراها للمرة الأولى حين يتحدّث عنها هذا الشيخ أوحين يدلّك عليها , فعنده  ليس لهذه العلامات بعدٌ  أحاديّ  بليد ,بل فيها أثنية قابلة للقراءة و الكلام عنها من جديد , وكلّ هامشي في الكلام و الأمكنة يحتاج إلى عوالمَ و قراءةٍ مناهضة لم نحسّ بها نحن , لم نعاينْها . مَن عاشرَه فترةً زمنية قصيرةً  سوف لن يرى إلا و نظرتُه و كلامُه عن كل شيءٍ تفضي به إلى مسار أكثرَ عمقاً وبعداً .

من أين له هذا البعد الاجتماعي و الثقافي و النفسي ؟ وبما حوله ؟

لِمَ يُستشارُ به بهذه الكثافة ؟ يستشيره لا الأقربون منه وكفى ,بل الأبعدون عنه . ولِمَ يُؤخذ برأيه هو فقط ؟.

ألمْ يطرحْ أحدُهم على نفسه هذا السؤالَ ؟ وليكن هذا السائلُ صديقاً له أو غريباً عن المدينة  دلّه البعضُ على الشيخ . وسوف لن يكونَ لأيٍّ كان ,ومَن كان جوابٌ وافٍ عن هذا الموضوع . ربما يكون عندي بعضُ جواب أو خيالُه : هو أنّ الشيخ -الآن-لا يرى أي شيء ٍ إلا إذا قرّب المنظورَ إلى عينيه ,إلا إذا اقتربَ هو منه اقتراباً شديداً حتى  يرى ما لا يُرى ولو من بعيد , ما هو أمرّ : أنّ الشيخ مازال يقرأ , لكن   بطريقةٍ غريبة : يضعُ مجهراً على الصفحة المقروءة حتى ترى عيناه ما هو مدوّن فيها .

أتذكره :

سوف أتذكّرُه الآن : قبل عشرين سنة كنتُ أفيقُ ليلاً أوبعدَ منتصف الليل فأرى ضوءَغرفته مشتعلاً ...شحيحاً.أقتربُ من غرفته ,

وأقول "غرفته "جدلاً   ليس إلا ,لأنها ليستْ غرفة ولو بالمعنى الضيّق أيضاً . أتلصّصُ عليه من درفة الباب أو ثقب المفتاح أو تشقّقات الباب الخشبيّ القديم , أتفاجَأُ بالكتاب بين يديه ، وعيناه لا تفارق سطور الكتاب ,وأحياناً كنتُ أراه بهذه الوضعية ، وهو نائم " وضعية مقدّسة بالنسبة لي أن أرى امرءاً نائماً  والكتابُ بينَ يديه أو على ركبتيه "وبعدَ أنْ وعيتُ  وأدركتُ ، سألتُ عنه مستفسراً - مستوضحاً عن حالته القرائِيّة هذه , فوجِئتُ بالجواب : أمضى حياتَه كلها هكذا .فليكن للشيخ أعداء . أتخيّلُ الشيخَ وقد أباح العلم - النحو والصرف و العروض والفقه - ليكون بمتناول الجميع . وسوف لن يعرف حقّه الحقيقي  إلا إذا غاب . لم أعرف حياةً جبارةً وقاتلة كمثل هذه الحياة التي تُلقي بقساوتها وقصديتها لا مرارتها وبؤسها فقط على مثل هذا الجليل الذي تُسوّى بينَ يديه أدهى المشاكل و أعقدها , وهو الذي يعاني منها : أهلاً وأبناءً ورؤيةً وقراءة وكتابة . لم أعرف إنساناً تحمّل كلّ ذاك . حُمّلَ عليه ما يُطيقُ وما لا يطيق  إلا إذا وُجدَ إنسانٌ يملك خمسين رجلاً بداخله , ولو أني أدرك أن هذا الرجل الكثير... الخمسين لا يحتمل

ولهذا حين ترى الشيخ – وهو ثمانينيٌّ – تُعطيه عمراً أضعافَ ما هو عليه . فلتحّملْ أعباءُ الحياة والناس عليه ,ولتكن الحياةُ مشعّة - باهرةً ,وليكن الناسُ مترفين .. ضاحكين "وكان عليهم أن يبكوا " .

إنه كتابٌ تنتهي من قراءته لتبدأ بقراءته من جديد . هكذا أتخيّل الشيخ ,ولو أني أؤكّدُ ولا أتخيّلُ أو أحس ّ.

هل في الحياة مثله ؟.