ازدواجية الانتماء

يعقوب أحمد

[email protected]

قد يجني الإنسان من وراء الغياب الطويل عن وطنه خيرات كثيرة، وأهدافا مشيدة، تفوق بكثير عما كان يجنيه من ذي قبل، فتأتي فترة ينسى فيها الواحد من أين ينحدر. إلا أن الغربة هي الغربة، مهما يكن الإنسان في أوضاع معيشية راقية عامرة بالسعادة والرفاهية والأمان، فإنه يوما ما سيشرع في التفكير في المكان الذي ولد وترعرع فيه، وهو مسقط رأسه.

وهكذا يصبح الفرد ثنائي التفكير، ثنائي الانتماء، يأخذه عقله إلى أعماق بعيدة من الهموم تجاه بلده، تارة ينعم ويتلذذ بالنعيم الذي هو فيه ويحس بالانتماء التام للمكان الذي يعيش فيه، وتارة تهب رياح الغربة ليذوق مرارة الفراق. الفؤاد متعلق دائما، وكثيرا ما نتشاءم من كل رنة تلفون تأتينا من الأهل، والأقرباء، أَخبر سار هو؟ أم محزن؟ تساؤلات تجعلنا أحيانا  نفقد التركيز عند الحديث، ننتظر سماع كلمة " جميع الأهل بخير"، أو "كل شيء على ما يرام"، بعدها  نشعر بالسكينة، ونبدأ بالحديث بكل هدوء، مصاحب بالضحك، والفرح.

وبالرغم من مساواة الناس في هذه القضية، إلا أننا نستطيع تقسيمهم إلى نوعين، مغتربون أعزاب ، ومتزوجون، فالأول أخف معاناة، ومرارة، لأنه يشعر بالحرية والاستقلال، بينما الثاني، كتب الله له الاستقرار وتكوين أسرة، لا يستطيع مفارقة رعيته ولو للحظة، وخاصة إذا كان ذو دخل محدود، حالته أشبه بالسمكة داخل الماء.

ولكن سنة الله في الكون تفرض ذلك، والأسباب التي تجعل الفرد يترك بلده الأصلي، كثيرة منها دينية، كما حدث لحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، عندما سافر من مكة إلى المدينة بسبب صد واعتراض صناديد قريش عن سبيل نشر الدين الإسلامي، ومنها لأسباب اقتصادية أو سياسية.

ونستطيع وصف الغربة بأنها نوع جديد من السياحة، إلا أن الفرق بينها وبين السياحة الحقيقية هو أن الأول يتسم بطول المدة، إذاً الهجرة و السفر أصبحا من أحلام كثير من الناس. وللسفر فوائد كثيرة نعجز عن ذكرها، ولكننا نستطيع حصرها في قصيدة للإمام الشافعي رحمة الله عليه، في هذا الشأن:

ما في المقام لذي عقل وذي أدب ... من راحة فدع الأوطان واغترب

سافر تجد عوضا عمن تفارقه ... وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصب

إني رأيت ركود الماء يفسده ... إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب

والأسد لولا فراق الغاب ما افترست ... والسهم لولا فراق القوس لم يصب

والشمس لو وقفت في الفلك دائمة ... لملَّها الناس من عجم ومن عرب

والتِّبرُ كالتُّرب مُلقى في أماكنه ... والعود في أرضه نوع من الحطب

فإن تغرّب هذا عزّ مطلبه ... وإن تغرب ذاك عزّ كالذهب