ملائكة خلف القضبان..
صوره من عذابات الطفولة الفلسطينية
سامح عوده/ فلسطين
لم يكن الثلاثين من حزيران في العام الماضي يوما ً عاديا في حياة الأسيرة سمر أبو صبيح ، ربما تعجز الأقلام .. عن سرد أحداث ذلك اليوم ، وتجف المحابر لهول تلك اللحظات ، حينما تمتزج الفرحة بالآلام ، لتبدأ الحكاية وتبدأ رحلة المعاناة خلف
القضبان ، يسرد الليل اليتيم مواجعه ، أشرقت شمس صباح ذاك اليوم خجولة ً وجدران سجن (الشارون) ترتجف ، لصيحات آلام سمر .. !! فهي تعاني ألم المخاض .. بعيدا ً عن الأهل والأحبة والمقربين .. كل ما حولها قضبان بشعة المنظر وجدران باردة تقتل كل ما هو جميل ، ببطء ٍ ولا مبالاة تنقل سمر إلى إحدى المستشفيات الاسرائيليه التابعة لإدارة السجون لتضع مولودها الجديد ( براء .. ) .. ملاك أتى في عالم بلا رحمة ليضاف إلى القائمة الطويلة من المعتقلين الفلسطينيين يحمل رقما في السجن .. في الوقت الذي لا يحمل فيه أية أوراق ٍ ثبوتيه .. تدل على أنه إنسان ولد على هذه الأرض ، المستشفيات الاسرائيليه ترفض رفضا قاطعا إعطاءه أية أوراق ثبوتيه تثبت فلسطينيته وحقه في الحياة ، الوالدان يقبعان خلف أبواب زنازين موصده ، لا يقدران الوصول للدوائر الحكومية الفلسطينية لاستصدار شهادة ميلاد له .. !! .
الملاك "براء" .. منذ عام ونصف تقريبا ً يقبع في غرفة ٍ أسير في مدفن الأحياء ، مع باقي الأسيرات الفلسطينيات ، غير مدرك ٍ لِماَ يجرِي حوله من أحداث ، لا يقوى على عد الدقائق والساعات ، تمر الأيام والليالي غير مبالية ٍ به وبدموع أمه التي تنهمر كالجمر من مقلتيها كلما لاحت منها نظرة عابرة إليه .. ما زال رفيق غرفتها .. رفيق (البرش) رفيق للقضبان الجاثمة على صدره دون أن يدرك معنى القيد والسجّان ، يحيط به الجند والعسكر من جميع الجهات المدججين بالسلاح باترين طفولته ، محطمين آماله في الحياة كباقي أطفال العالم .. !! مهددين صحوته .. وقاطعين حبال النوم كلما أرادت أن تربط له الأجفان .. لينام نوما ً آمنا ً مستقرا ً ، الضجيج لا يتوقف في تلك الأقبية المظلمة والرطوبة تنخر عظامه التي لم يكتمل نموها بعد .. !! الحشرات الزاحفة والطائرة في الغرفة الضيقة .. تستفز كل لحظة سكون قد تجعله يشعر بالأمان ولو للحظه .
إنها صورة قاتمة السواد في كل زاوية حاولت النظر إليها ، لن تجد إلا السواد يكسوها والقهر يعلوها ، هذا الملاك الصغير القابع رغما ً عنه في زنزانة لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار هو .. ورفيقات والدته في الأسر ، اللواتي تجاوزن السنوات على اعتقالهن يشاركهن هواء الغرفة الملوث .. !! بفعل ما يقوم به الجند من إطلاق لغازات تقتل في الإنسان آدميته ، يقاسمهن ( كسرات ِ .. ) .. الخبز اليابسة والأكل الشحيح غير الكافي لإطعام ملاك رضيع ، فالرضيع لا يعرف وقتا للأكل .. !! يبكي كلما باغته الجوع وداهمه العطش ، لا يفهم الصبر حتى يأتي وقت الطعام المقرر حسب ما أقرته لوائح إدارة السجون.
من حق الأطفال أن يناموا في غرفهم التي اختارها لهم آباؤهم .. زينوها وزركشوها بألوان تتناسب مع طفولتهم البريئة ، هيئوا لهم ( الأسرّة ُ .. ) المناسبة تعتليها ألعاب صممت ً كي تمنحهم الاستغراق في نوم عميق .. !! لا ينسون تلك الألوان تلون الجدران.. ولا ألعابهم التي جلبت لهم في مناسبات عدة ، مهما تقدم بهم العمر فإن ذكريات الطفولة تبقى منقوشة على صحائف ذاكرتهم ، لأن المشاهد الجميلة تُبقى لهم أطياف الطفولة السعيدة طازجة كلما عصفت بهم رياح القدر بحفنات الألم ، أما ( براء .. ) ذلك الطفل الذي أوقعه القدر تحت ( نير .. ) .. سجان ظالم ٍ لا يرحم ، فليس له إلا أن يفترش مع أمه إحدى زوايا الزنزانة عله ينعم بلحظة نوم هانئة ، يغلق عينيه وهو يرى قضبان الزنزانة الصدئة تحارب طيف الأمل الذي ربما يمر في سمائه لتطرده بعيدا فيجد نفسه أسيرا في صحراء خاوية لا ينبت فيها إلا الشوك ، كيف له أن يحيا حياة أطفال العالم والمداهمات الليلية لزنازين تتم بوحشية الغاب ، طرق للأبواب ونبش في موجودات الزنازين .. !! وعنجهية يندى لها الجبين فيها انتهاك صارخ لأقدس حق في الوجود .. حقوق الطفولة التي وهبتهم إياها كل الأديان والمواثيق والأعراف الدولية وشددت ومؤسساته الراعية لتلك الحقوق على احترام إنسانية الأطفال والحفاظ على حقهم في الحياة ، حق غير قابل للتأويل أو الانتقاص ، لكن "براء" ذلك الملاك الصغير الموؤده طفولته في مهدها لم تسعفه قوانين ومؤسسات العالم الإنساني في أن تعيد له جزءا ً من طفولته المهدورة عنوة ً وظلما ً ، لقد آثرت تلك المؤسسات المراقبة لانتهاكات حقوق الأطفال الصمت .. !! وعدم التنديد بهذا الخرق الفاضح لحق طفل في أن يعيش طفولته كباقي أطفال الأرض .
يبدو أن صرخات أولئك الملائكة القابعين خلف قضبان محتل غاصب لم تنل قسطا ً من العدل .. !! ولم يحرك ضجيج بكاء هؤلاء الأطفال الضمائر الحية في ما يسمى بضمير العالم الحر .. !! ولم تحرك دموعهم جيش المدافعين عن العدل في محاكم صماء أعدت لقتل العدل ، ولم تجلب حقا لملاك صغير لا يملك إلا جداريه في إحدى أطراف الزنزانة التي دونت عليها إحدى الأسيرات اسمه وجنسه وتاريخ ميلاده ، في الوقت الذي تجد أطفال العالم يحتفظون بدفاتر مذكراتهم يدونون .. و يرسمون ما يشاءون وشهادات ميلاد تثبت أنهم أحياء على سطح الأرض ، تنفي عنهم صفة ( النكرة .. ) .. واللاوجود.