هواجسٌ عند مدامع المدينة
نسب أديب حسين / فلسطين
أخرج للسير في مرافقة ظلٍ ومساءٍ يستعد للمجيء، في طريق فيه من الغرباء الكثير..
أتابع خضرة أشجار توشح الطريق، واستغرب كثرة السائرين في مثل هذا الوقت، فعادة ما يقل الذاهبون القادمين مساء يوم الجمعة.
تقبل علي طفلة تمسك براحة أبيها وأسمع صدى صوتها من بعيد، تتكلم وتكثر من الكلام وعندما تمر بي اسمعها تخاطبه بلغتها العبرية "لا استطيع.."
تساءلت ترى ماذا لا تستطيع، ما همها هذه الصغيرة ؟ أهو كما كان همي يوم كنت في عمرها؟
(كيف يمكن لأرجوحتي أن تصل السماء؟ كيف أحلق قرب العصافير؟ كيف أجعل الريح تحمل طائرتي الورقية؟)
كم رائعة ثرثتها تلك الطفلة، كنت مثلها ذات يوم كثيرة الكلام منذ تعلمت اتقان الكلام.. اليوم أمضي وحيدة أنا وظلي، والظل يفهم جميع اللغات، فصرت أحادثه في صمتي وعدت كثيرة الثرثرة منذ تعلمت اتقان الصمت.. أجد الظل يربت على كتفي "لا بأس يا صغيرتي" ونسير أنا والظل والطريق..
يقاطعني عن حديثي الصامت صوت يقترب أنظر الى الامام باحثة، فتاة في مقتبل العمر تقترب وهي تغني بصوت مرتفع، إثر اغنية تسمعها عن طريق جهاز مثبت الى خصرها. صوتها يملأ المكان، واستغربت جرأتها ففي صوتها الكثير من النشاز وتمضي به بشكل جهور كأنما الطريق ملك لها. على بعد أمتار عني صمتت لست أدري هل انتبهت لانتباهي اليها؟ هل شعرت أنها تقاطع حديثي السري..؟ مرت بقربي بصمت وعندما راحت المسافة بيننا تكبر عاد صوتها ليرتفع.
شعرت بصمتي يكبر يا لجرأتها تسير وحدها وتبعثر الكلام كيفما اتفق، وأنا إن ناديت في صمتي أسمع صدى ندائي في قلبي يُحدث هوةً وقد تسقط بضع خلايا من ارتداد الصوت ولا من مجيب.. وإن نظرت عيني وبحثت عن شيء من الحقيقة في نور الغد تجد أن كل ما رأته سراب..
سرابٌ اذًا وأمضي.. سراب اذًا وأسْرِع.. سرابٌ اذًا وأعود الى وتيرة سيري..
ويمر من يمر من المارين، من ينشد الرياضة ومن ينشد الترويح عن النفس، ومن يبحث عن كنيس ومن يبحث عن حلم..
مجموعة من العجائز قبالتي يخرجون من بيت متحدثين باللغة الاسبانية ومع اقترابي شخصت الي عيونهم الثمانية، عيونهم مثبتة نحوي ربما ميزوا أنني لست منهم.. عندما ابتعدت سمعتهم يقولون "شبات شالوم" ويفترقون لأربعة وأربعة عيون.. استغربت تلك الطمأنينة والاسترخاء في استقبال السبت في هذا الحي من المدينة بينما قد تكون عائلة أخرى في حي مقابل تتلاهى بالاحاديث، تحاول أن تنسى جرح الصباح والنزاع لمحاولة منعها من استقبال الجمعة..
فجأة إرتفع صوت المؤذن، كلمات عربية تصدح في المكان، تصل من قرية عربية مجاورة، قد ينزعج القاطنون هنا، ربما كان عليهم تقديم شكوى لمحكمة العدل العليا تفرض السجن على الريح كي لا تحمل صوتًا عربيًا الى هنا..
اقترب من بقعةٍ تطل على شرق المدينة.. غالبًا ما أقف هناك لأتابع المكان وأنظر الى جدار فاصل بدأ كقطعة صغيرة، وراح يمتد ويكبر كالسرطان، وها قد تم اتمامه تقريبًا بعد عامين من العمل "الشاق"، من إحدى جهتيه شقٌ له عمق لا بأس به، ومن الجهة الاخرى شارع إسفلتي جديد، هناك في ذاك المكان صمت الجميع لم أسمع سوى زقزقة العصافير.. تساءلت تُرى ما موقف العصافير من قضية وطننا؟ ترى هل يؤذيها الجدار عند استيقاظها صباحًا، وتجده برماديته يسخر منها كما يسخر مني كلما فتحت نافذتي الشرقية، يسابق الشمس عند تسللها ويبتسم ملقيًا تحية الصباح بحقد، ورغم أن غدر الجار ليس بغريبٍ علي لا ولا الاصطباح بالجار الحقود علي بجديد، إلا أن عيني لم تعتد يومًا ملقى هذا الجار.. فهل تأذى وطن العصافير؟ هل تنام في جهة وترحل الى الجهة الاخرى في الصباح؟ هل يستوقفها الجدار ويطالبها بالهوية؟ هل تبذل جهدًا أكبر كي تعبره أم أنه مجرد بناء قائم لا يعنيها ؟
لو تتقن الكلام تلك العصافير التي تتقافز هنا بقربي في هذا المقطع بين شرق وغرب المدينة لأفصحت.. وقد تقول :" نحن بالسياسية لا شأن لنا ولا خبر، كل الاوطان أوطاننا وهذا من شؤون السياسة حسبنا، همُنا غصن ظليل، شيء من قوت اليوم، عشٌ دافئ، رقصات السرب، ووداع يوم واستقبال آخر بالغناء والتغريد.."
تغيب الشمس يدعوني الظل للمسير ويسابقني في الطريق، تمر بنا قطة واضح عليها امارات الدلال والغنج.. قلت لنفسي قد يكون للقطط موقف سياسي محدد أكثر من العصافير، فقد أخبرنا أحد المحاضرين في الجامعة أنه بعد ان أجرى بحثًا على القطط في شرقي المدينة وغربها وجد اختلافًا في طبيعتها والامراض التي تنتشر في وسط القطط "العربية" غيرها عن الامراض التي تنتشر في وسط القطط "اليهودية". لعلنا اذًا نجد موقفًا سياسيًا داعمًا من جانب مجتمع القطط، وقد يساعدونا ضد الاحتلال أكثر من مجتمع بشري يعايشنا.. ومن يدري قد تنظم القطط مظاهرة احتجاجية إسوة بإخوانها من الحمير والاغنام القاطنه في غزة، اذ شاركوا قبل مدة بمظاهرة احتجاجية وأظهروا موقفًا بينما عجز أخوة من البشر عن كسر الصمت..
أسير وظلي تعكسه ما أضيء من مصابيح.. الظل يمتد يسابقني ولست أدري لماذا هو على عجل.. وأهمس له أني على ضيق وعلى أمل.. وأحار بنفسي وأدرك أني لست أدري.. كيف أنشد الوحدة لأبتعد عن صخب يومي، وحين تأتي أحبها لحين وأخشاها لأحيانٍ كثيرة، تبرع في رسم الجدران أمام غدي، في نفض ما علق في ذاكرتي من حزن وحقد وجروح أعملها الغادرون..
أسرع في سيري وكلمات تتقاذفني " حلم.. وطن.. حياة.. حب.. عمل.. دراسة.. سلام.. أرض.. أمي.. أبي.. شعبي.. مُدُني.. وهم.. سراب.. حلم.."
أسارع أكثر حتى أقترب من بيتي لأتهالك عند مقعد قريب من أرجوحة.. هناك أطفال يستمتعون بالتأرجح ويتناوبون، وأنا أنظرهم ورغبة جامحة بالتأرجح تعصف بي.. انتظرت.. إنه دورهم الآن ليس دوري، دورهم ليعتلوا أبواب أحلام طفولية جميلة قد تحملنا اليها الأرجوحة..
بعد أن إنطلقوا حان دوري، هناك رحت أتأرجح لست أدري اين كان الظل يقف؟ هل يتأرجح معي، أم يؤرجحني أم يجلس على الارجوحة المقابلة شارد الذهن؟.. لست أدري، ما أعرفه أني كنت أنظر الى السماء وأعب الهواء، وكنت كما كنت في طفولتي أتمنى أن تحملني الأرجوحة بعيدًا لأطير.. لأطير وأكون كما هي العصافير..