ألحان حزينة وعزف رقيق

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

من حولنا كعرب تتداخل ألحان الحياة بأنغام شتى , فيها الفرح والأمل والغد السعيد , تلك الألحان نسمعها وتلك الموسيقى الصاخبة تدق على غشاء أطبال آذاننا , فأصبحت هي الطبل , والطبال يضرب من بعيد وقريب في كل وقت لاليل يهدأ صوته ولا نهار

نريد النوم نريد اليقظة في الصباح , ننشط من نومنا نعي ماحولنا , ولكن كيف نعي وتلك الموسيقى الصاخبة تقرع على الجلود؟ كيف نعي وكيف نشعر بمن حولنا وذلك الهدم والصراخ عندنا والبناء من حولنا

في مخيلتي منظر لم يبرحها أبدا

أغنية لمطربة إيطالية ,مع أنني لاأعرف اللغة الإيطالية , ولا أفهمها , ولكن الأغنية مصورة شاهدتها عدة مرات بالأبيض والأسود في السجن في بداية الثمانينات من القرن الماضي

تغني بصوت يكاد يتقطع من الحسرة , تسير في نفق من النايلون وعلى جانبيه يقف الرجال تقترب من الواحد تلو الآخر تترجاه ليقول لها كلمة ليقول لها نغمة تدل عن إعجاب عن بسمة تخرج من بين شفتيه , ولو كانت مجاملة

لاأحد يتكلم ولا يبتسم وتعلو الوجوه مسحة أصنام لاحياة فيها , وتخرج من النفق  بعد المناشدة والرجاء لتقف وحيدة تملأ الدموع مقلتيها حزنا على حالها , ومكانتها المنهارة في النفوس من قبل الآخرين تجاهها , مع أنها رائعة الجمال ولا ينقصها مفاتن تملكها تجاه الرجال

تظهر الحالة تلك في قلوبنا تنشر الحالة تلك علينا رداءا يلبسنا من أعلى قمة في وطننا مع ناسه ومخلوقاته وبساتينه ورياحينه وبحاره وأنهاره , إنه رداء حزين يلف كل الجمال الذي عندنا بحزن عميق يخرج من أكبادنا ويرتسم على مظاهرنا

في غزة نادى الجميع بظلم وتدمير وقبلها أختها فلسطين كلها , والمظلوم في جماله وقلوب الناس في العالم أجمع تخفق لذكرى القدس والخليل والزيتون والأقصى وكنيسة القيامة ولكن اللحن الحزين مازال فيها , والصراخ فيها لم يكن عند من حولها , إلا أصناما صنعت من معدن لايلين

نحب الألحان الحزينة ونعشق الأغاني والتي تقول , وترحل ولا حدا يسمع صوتك ولا أنين , مع صوت الربابة ليعطي مجالا للحزن أعم وأشمل في القول :محمد يبويا محمد

وتقرع الطبول وتصم الآذان عند ذكر الزعيم

ويستمر العزف بربابة مصنوعة من جلود العراقيين ومصبوغة بدماء الأبرياء فيها , تتلاعب تلك الأوتار بخفة وحزن عجيب بأنا مل عازفين مهرة على كل جسد بريء

في أعماقي تلك الصورة , مع مخيلتي تعيش دوما , يطالعنا لقطة من فيلم كرتون , لرجل يبيع القبعات ومكدّسة فوق رأسه تكاد تكون برج دبي  أو برجا من الأبراج في وطننا العربي

يمشي الرجل في الأسواق ينادي على بضاعته , والجوع قد هده والعوز والحرمان الذي يحيط به قد أنهكه , وحاول البيع لكي يعيش ولكن لم يجد لبضاعته راغب أو مشتري ولو بسعر بسيط , فترك السوق ولجأ إلى شجرة وجلس متكئا على جزعها والقبعات مازالت على رأسه مصحوبة بأنغام حزينة رقيقة تنساب  على المشاعر وتهز تلك المشاعر حزنا عليه

نحن ماهي بضاعتنا في هذا العالم؟

هذا الرجل سعى بقوته ولكن كانت بضاعته كاسدة ولم يلتفت إليها أحدا , فهو قد اختار البضاعة التي لاتليق , ونحن الأمة نعزف بألحان الماضي ,والحاضر لايهمنا ,والبضاعة التي عندنا تؤخذ بالقوة ونحن نتحسر عليها , ويحل لعابنا عليها لنستبدلها بتي شيرت مرسوم عليه مايكل جاكسون أو الجاكوار وجميلات العالم من البوسنه والشيشان والتجارة الداخلية لمن تملك جمال يفوق جمال الروس أو الهرسك وغيرها

وطبول الحرب تدق من كل جانب , والتفتيت للأمة مستخدم فيه كل أنواع الكلاليب ونحن مازلنا مع نغمنا الحزين

فكم نادى هذه الأمة من عالم , وكم قال فيها من شاعر , وكم مات فيها من مجاهد , وكم عزف لحنا فيها يحضها على تجاوز اللحن الحزين

ولكن في يد زعمائها نار وحديد على تلك الأصوات ومنابعها . ودثرها لكي لاتكون  إلا أثرا يذكر عنه همسا في نفس من يشعر بقساوة الحزن والألم ولن يقولها لأحد حتى لايكون هو مع الراحلين

الصهيونية تخترق كل الحجب في بلادنا , وإيران تنشر كل دهائها وحقدها وغضبها فوق وبين ربوعنا , وأمريكا تحتلنا , ونحن مازلنا نعزف للوطن الجميل

أنا أكره صوت الربابة وأكره صوت الناي وحتى صوت الدف صرت أكرهه

ولا أحب الموسيقى ولا أحب الغناء

ولا أحب شيئا في وطن أصبح مأوى بدون حياة

مع أن قلبي مازال ينبض بالحياة ,

 ولكن أين هي الحياة ؟

وقد قالها مظفر النواب منذ السبعينات

تتحرك دفة غسل الموتى لكي أعريكم

فمتى نصحو كأمة من هذا السبات اللعين , ومتى  نجعل العالم يهتم بجمال وطننا الحبيب ؟

لن يكون ذلك  إلا عندما نعي حقيقة قول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للإعرابي (أعقلها و توكل )

وعندها قد نرى قرع طبول النصر قادمة , ونعزف ألحانا تعبر عن تراثنا وواقعنا المجيد