زرع وعناقيد
زرع وعناقيد
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
أتاح لي هذا الجو الخريفي الناعم فرصة التمتع بالتجوال في شوارع رام الله بشكل أكثر كثافة، ففي العادة أخرج في الصباح المبكر وفي الليل أيضاً، ولكن خلال الأيام الماضية كان الجو يتيح لي التجوال في النهار مابين صلاتي الظهر والعصر، فالجو معقول والشمس مقبولة، فكنت أخرج حاملاً حقيبتي الصغيرة التي بها كاميرات التصوير الفوتوغرافي، وان كنت حتى الآن لم أحب ممارسة هواية التصوير بالكاميرا الرقمية، وما زلت أعتمد على كاميرا تعبئ بالفيلم، ومن ثم أنزل الصور على حاسوبي رقمياً، رغم حيازتي لكاميرا رقمية لا أستخدمها إلا فيما ندر، ولعل هذا يعود لاعتيادي منذ زمن طويل على تلك النوعية من الكاميرات، واشعر فيها أنها تعطي المرء القدرة على التحكم بالزوايا والإضاءة والمسافات، بعكس الرقمية التي أشعر أنها تفرض ما تريده هي على عين المصور، فاستغل التقاط عيناي لبعض اللقطات الجميلة لرام الله وأصورها.
أما الأمسيات ففي معظمها كنت وما زلت أتابع مهرجان القصبة السينمائي الدولي الثاني، وقد حفل المهرجان بكم كبير من رائعة الأفلام، سواء العربية أو الوثائقية الفلسطينية أو العالمية، وقد تركت لنفسي الوقت للكتابة عن بعض هذه الأفلام وعن المهرجان بشكل عام وتقيمي في الأيام القادمة.
هذا التجوال النهاري أتاح لي فرصة لتأمل لوحات معرض "تسامح" في حاضنة الثقافة في رام الله، مركز خليل السكاكيني، حيث تأملت وعلى مدى يومين لوحات مميزة لعدد من الفنانين الشباب، كما أتاح لي أيضاً فرصة من السرور والفرح، فأخيراً قامت البلدية مشكورة بإعادة الأسيجة المعدنية التي دمرها الاحتلال أكثر من مرة، لتفصل المشاة عن الشوارع، وقامت شرطة السير مشكورة بتنظيم السير في المنطقة المحيطة بدوار المنارة، فمنعت السير في الشارع للمشاة، والزمتهم بالسير على الرصيف وقطع الشارع من الممرات المخصصة، مما أتاح انسياباً جميلاً لحركة السير، ومُنعت البسطات عن الأرصفة والشوارع، فلم نعد نرى الأعداد الكبيرة من المشاة وهي تزاحم المركبات في ميدان المنارة، وقامت البلدية مرة أخرى بزرع الأزهار في جانب المنارة وأحاطتها بأسيجة مرتبة، في تلك الزاوية التي دأبت الفصائل على اتخاذها منبراً للخطابة، مما كان يؤدي كل مرة إلى تخريب الأزهار وموت الورود، وخلق الأزمات المرورية، فلعل هذا النظام يستمر ويعمم في الشوارع الرئيسة كلها، ويعود السير على الأرصفة فهي وضعت للمشاة، ولعل أمنيتي تتحقق بتنظيف الأبنية والشوارع من عمليات لصق الملصقات في كل مكان، فتختفي هذه البشاعة عن الجدران، وتعود المدينة إلى بهائها والجمال، وان آلمني أن أرى موظفوا دائرة الإحصاء المركزي يلصقون بالغراء ملصقات على الجدران، حتى الرخامية الجميلة منها، فان كان هذا سلوك دائرة مركزية حكومية، فلماذا نلوم على متعهدي الحفلات وعلى أطفال الفصائل، فهل أجمل من النظافة والنظام ؟
هذه الملصقات التي تجتاح جمال المدينة أعادتني لاستكمال حديث الذاكرة، أعادتني لأحداث هامة أثرت في طفولتي، واولاها الجراد.. هذا الجراد الذي هاجم عمّان في تلك الفترة قبل دخولي المدرسة الابتدائية، والذي كنت أراه لأول مرة في حياتي، فلم يترك أخضراً ولا يابس إلا التهمه، حتى أنه من كثافته حجب السماء عن العيون، وخرج الناس يحاولون مكافحته بكافة الوسائل، ولكنه تمكن من التهام الجمال، كما تلتهم الملصقات والإعلانات جمال رام الله الآن، وترك الجراد أثاراً مأساوية على النفوس، فقد التهم الحقول وأوراق الأشجار، التهم الورود والأزهار والأعشاب، ترك الأرض جرداء كأنها صحراء قاحلة، وحين ذهبت إلى خلوتي بجوار دار النهضة في السفح الآخر من جبل الاشرفية ووجدت الجراد قد التهم كل الجمال.. بكيت..
والحدث الطبيعي الآخر هو "الثلجة" الثالثة الكبيرة، كما كانت تسميها أمي، "فالثلجة" الأولى في بدايات الخمسينات من القرن الماضي، والثانية في شباط من العام 1957، وفيها ولد أخي الأصغر مني بعامين والأقرب إلى روحي، جهاد الذي له في الروح والنفس موقع خاص لا ينافسه عليه أحد، فهو كان ولم يزل الأخ والصديق والحبيب، وهذه " الثلجة" الكبيرة تركت على روحي جمال وتأثير كبير، فلأول مرة أشهد الثلج بهذه الكثافة، وترتدي عمّان ثوب زفافها الأبيض، وتغمر روحي رغم طفولتي مشاعر الطهر والتطهر، وزاد من هذا الشعور الجميل، أن الثلج عندما ذاب بعد فترة لا أذكرها، وجادت الشمس بدفئها ونورها، أن اللون الأخضر والورود كست الأراضي الواسعة في ظل قلة البنيان، فأحببت الثلج وتمنيته دوماً.
أما الحدث الأكبر في حياتي في تلك الفترة، أن الوالدة علمتني القراءة من خلال مجلة "بساط الريح"، إن لم تخونني الذاكرة، فالوالدة كانت قارئة نهمة للروايات والأدب، ولم يكن الوالد يبخل بإحضار الروايات لها، وكونه كان يعمل في سلك شرطة السير الأردنية، وبالتالي كان كثير الغياب وكثير التنقل، فكانت الوالدة تشعل "لمبة الجاز" وتقرأ وأنا بجوارها، ولعلها انتبهت لإلحاحي عليها، فكانت تقرأ بصوت أسمعه وأتابع معها حتى أنام، ومن ثم وجهت جهدها لتعليمي القراءة فبدأت أقرأ بدون أن أكتب.
كنت ألح على أهلي أن أدخل المدرسة وخاصة حين دخلها ابن الجيران، وكنت أصغره بشهور محدودة، وكان ينتابني القهر حين أراه عائداً من المدرسة يحمل حقيبته وكتبه، وكون القانون يحكم أن من يدخل المدرسة يجب أن يكون قد ولد خلال السنة المطلوبة للصف الأول الابتدائي، ولا يجوز لمن بدأ السنة التالية ولو بعام أن يدخل المدرسة، وعليه أن ينتظر للعام الدراسي التالي، فكان علي الانتظار، ولكن حجم إلحاحي وبكائي دفع أهلي إلى التحدث مع أحد أقربائنا وكان ضابط في الجيش ليتوسط لي، فأخذني من يدي إلى مدرستي الأولى النظامية، مدرسة الصحابي عبد الرحمن بن عوف، ودخلنا لمدير المدرسة أبو علي رحمه الله، وقد كان كبيراً في العمر، وتقرر قبولي كمستمع لأني اصغر من السن المطلوب، والدراسة قد بدأت منذ شهرين تقريباً، وكان مبنى المدرسة مكوناً من صالة وأربعة غرف صفية لا غير، الصالة تستخدم كإدارة للمدرسة، والغرف الصفية لأربعة صفوف من الأول حتى الرابع الابتدائي.
كنت أقف بين قريبنا والنجوم تتلألأ على كتفيه ومسدسه على جانبه، وبين أبو علي وهو يضع تحت إبطه عصاً للتأديب، وقال له قريبنا العبارة التقليدية: "لكم اللحم ولنا العظم"، كناية عن انتقال الولاية على الطفل من الأهل للمدرسة، فنادى أبو علي على مدرس وسلمني إياه، وقال له: "خذ ها الولد عندك وشوفه بيفلح والا لا، فان فلح سجله والا أبقه مستمعاً"، فأمسكني المدرس بيدي بحنان ولا أعرف سره، هل كان هو حنوناً أم هي رهبة السلطة المتمثلة بضابط من الجيش حضرت معه، أم احترام رهبة المدير، وأدخلني الصف ووقفت أمام الطلبة الذين كانوا ينظرون باستغراب لهذا الوافد المتأخر، ونظر في الصف وأجلسني على مقعد وقال لي: صاحب المقعد غائب اليوم وغداً احضر معك مقعد صغير حتى تجلس، والا جلست على الأرض.
ربما لحسن حظي أن الحصة الأولى كانت في اللغة العربية، وكان هناك درساً مكتوباً على اللوح، وبعد قليل قال الأستاذ: من سيقرأ الدرس ؟ فرفعت يدي، فنظر لي باستغراب وقال: اقرأ، وقرأت، وإذا به يمسكني من يدي ويخرج بي للمدير ويخبره بما جرى، نهض أبو علي من خلف طاولته ونظرات الاستغراب بادية عليه، أعادني للصف ووقفت بينه وبين الأستاذ والدم يتجمد في عروقي، فقد بلغ مني الخوف مبلغه وظننت أني بقراءتي للدرس قد ارتكبت ذنباً، ونظرت العُصي في أياديهم فتحول الخوف إلى رعب داخلي، وطلب مني المدير القراءة فقرأت، فقال لي أين تعلمت القراءة؟ قلت: علمتني أمي.. فطلب من الطلاب أن يصفقوا لي، وقال للأستاذ: أجلسه في المقعد الأمامي وسأثبته كطالب بالمدرسة.
أطال الله بعمرك يا أمي وأسأله تعالى أن أراك بعد هذه السنوات الطويلة التي تقارب العشرة، والتي حرمني الاحتلال فيها من رؤيتك، فقد كنت المعلمة الأولى وما زالت.
مساء الأمس رشرش المطر في رام الله وازداد في الليل وهدأ في الصباح إلا من قطرات متناثرة، بينما كان عصراً شتاء وبرق ورعود في شمال فلسطين، فأثناء حديث هاتفي مع كاتبة صديقة من عمقنا الفلسطيني، كان صوت المطر والرعد قوياً جداً، فقلت لها ننتظر غيوم الخير والغيث من الله ومن عندكم، لكن المطر الذي وصلنا كان شحيحاً، ولعل الله يمن علينا بالغيث حتى تروي الأرض والينابيع، ولعل النفوس تتطهر، والأرض تغتسل من أثار القدم الهمجية التي ما فتأت تقتحم المدن والمخيمات، تقتل وتدمر وتخرب، تعتقل وتجرح وتأسر، ونحن ما زلنا نتراشق التهم واسطوانات التكفير والتخوين، بلا خجل ولا أحاسيس ولا انتماء لوطن أو قضية.
صباح آخر أجمل، حمائم وعصافير وهواء نقي مشبع برائحة المطر، وشوق لطيف غائب لكنه البعيد القريب، حروف خمسة تسكن الروح والقلب، لفافة تبغ وفنجان قهوة والمطر يدق نافذتي، وصوت ناعم هامس أشعر به في أذني، وشدو فيروز:
"شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى، تدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلا، خليلي عينك عا الدار عسياج اللي كله أزرار، بكره الشتوية بتروح وبنتلاقى بنوار يحلى عيد ويضوي عيد نزرع ونلم عناقيد، وانطرني لا تبقى تفل وتتركني وحدي عم بطل".
صباحكم أجمل.