الإسلام وإعمال العقل

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

أحب الفلسفة حبّاً كبيراً، لكنني أخافها أيضاً! فما رأيت فيلسوفاً تفلسف إلا واشتط في أفكاره، وصار يلقي بنظريات ما تحس معها إلا أن هذا الفيلسوف لا يعيش في هذه الدنيا إلا بجسمه، وأما روحه فتهيم في عالم الخيال والتنظير!

ولكني فهمت الآن سبب شطح كثير منهم هذه الشطحات البعيدة، أفهمنيه فيلسوف ظريف (وقد نسيت اسمه الآن) يسخر من سلوك أهل مهنته (الفلسفة) واعتقادهم أنهم بفلسفتهم تلك وبمجرد التفكير والتحليل والتأمل صاروا قادرين على فهم هذا العالم بأسره! لقد أوضح هذا الرجل أن مهمة الفيلسوف إنما تقتصر فقط على التنظير في حدود معينة، أما حينما يعطي الفلسفة أكثر من حقها ويعتقد أنها أداة خارقة يمكنها أن تكشف أي غامض أو مجهول فعندئذ يخبص الفيلسوف ويضطرب! والحقيقة أنني لو أردت إيضاح هذا الأمر في كلمات قليلات، لقلت إن وظيفة استقبال المعلومات هي وظيفة الحواس الخمس وحدها، ولا يجوز أن يسمح للعقل يوماً أن يصبح مصدراً لاستقبال المعلومات الخارجية (وهذا هو بعينه الخطأ الذي أوقع كثيراً من الفلاسفة القدماء في شطحات عجيبة في العوالم الغيبية التي تجرؤوا على الإفتاء فيها بما لا يعلمون، وهم يدعون أنهم يعلمون). فالحواس هي التي تستقبل المعلومات من الخارج (وليس العقل)، وأما العقل فإن مهمته أن يربطَ بين المعلومات (التي حصلناها من قبل بحواسنا الخمس تلك) ربطاً صحيحاً يصنع لنا الصور المحيطة الشاملة بعد أن كانت خاماً من المعلومات المتفرقة المتشتتة التي لا معنى لها، ويستنبطَ النتائج من المسلمات في تسلسل منطقي متين.

ومع ما ذكرت فإننا مهما رأينا في هؤلاء الفلاسفة من عيوب نجتنبها فإن علينا أن نعترف لهم بفضائلهم ونتعلمها منهم، فما أجملها من خصلة في معشر الفلاسفة أنهم قوم يفكرون! "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض"[1]، وهي صفة يحبها الله تعالى، والله يبغض فارغ الفؤاد الذي لا يعيش في هذه الدنيا إلا عيش البهائم: أكل ونوم ونكاح ثم موت. وإنما شرفنا الله عن الحيوانات بأن رزقنا عقولاً نتفكر بها، ومثلما تتقوى العضلات وتنمو بالرياضة فكذلك العقل. وكثرة التفكير والتأمل وإعمال العقل تحليلاً ينفذ إلى صلب الأمور وقراءة أمّات الكتب وتحصيل العلم، كل أولئك رياضة العقل توسع مداركه وتنميه.

وقد وجه الله تعالى في قرآنه الكريم تقريعاً شديداً إلى الذين يعطلون عقولهم ويرضون أن يعيشوا كالحيوانات والآلات، فالمؤمن كثير التفكر، لا يترك نفسه يتحول إلى آلة لا تعي ما تفعل ولا تدري إلى أين يقودها دربها الذي تسلكه، والله يحب الذين يكثرون من التفكر والتدبر ويُعملون عقولهم ويحيون أفئدتهم، مع ما لذلك من أثر واضح في تنمية الجانب الروحي والعقلي عند الإنسان، والسمو بالنفس عن عالم المادة، وخلق الخيال الخصب وتذوق الجمال.

فأكثرْ من التفكير وعَوِّد نفسك إعمال عقلك حتى في البديهيات. وإذا حسبت في يوم من الأيام أنك استنفدت كل ما يمكن التفكير فيه في طور طفولتك فاعلم أنك مخطئ! فهذا الكون الفسيح كله -على صغره وهوانه عند الله- ليس أحدنا فيه أكثر من جزيء ماء (ولا أقول قطرة!) في بحار الأرض كلها مجتمعة. فمن أين للأفكار أن تنتهي إذن -ونحن نحيا في هذا الكون الفسيح- إلا إن عميت قلوبنا وأظلمت عقولنا! "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". ولو أن ما يمكننا أن نفكر فيه من كون الله البديع كان سريع النفاد حقاً كما يحسب بعضنا، لما أصابنا الذهول عند دخولنا مكتبة عامة من ضخامة تراث الإنسانية في مجال استكشافه للعلوم على مدى قرون طويلة، لم تظهر له إلا طرفاً ضئيلاً جداً من هذا الكون الذي نعيش فيه، ومع ذلك لو أفنيت عمرك كله في هذه الكتب لما أحطت بها علماً!

ومهما كنتم مشغولين، فلن تعدموا أوقاتاً تتفرغون فيها للتأمل والتفكير، ولو كان ذلك في سريرك قبل أن تنام. خاصة وإن كنت -مثلي- من أولئك الذين يأرقون ساعة أو نصفها في أحسن الأحوال قبل أن تستغرق في المنام.

              

[1] الآية 191 من آل عمران، وآيات الحث على التفكر كثيرة التكرار جداً في القرآن.