ندى رام الله والأمسيات
صباحكم أجمل
ندى رام الله والأمسيات
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
عاد جو رام الله إلى طبيعته المعتادة، الجو الناعم الذي لا يخلو في الأمسيات والصباح المبكر من بعض برودة، إنه الجو الذي يميز رام الله وأعطاها عبر تاريخها تسمية مصيف فلسطين، ففي مساء الأمس زارني أحد أصدقائي من أبناء بلدتي جيوس، توجهنا سويا للقاء بعض من أبناء البلدة ما بين مقيم في رام الله وما بين قادم كزائر إليها، كان مكان اللقاء في ذلك النادي الجميل القديم النادي الأرثوذكسي، جلسنا في الحديقة بانتظار القادمين من أبناء البلدة، كنت قد احتطت لبرد المساء بارتداء بذلة تقيني برودة الأمسيات، وكان حذري في مكانه فقد كان الجو بارداً وندياً، كان الندى البارد يغطي سطح المنضدة، ورغم تردد العاملين لمسحه أكثر من مرة، إلا أنها كانت محاولات فاشلة أمام برودة الجو، في لحظات الانتظار كنت أتأمل هذه الحديقة الجميلة، أكثر ما يلفت نظري بهذا المبنى بناءه القديم وتقسيمته الداخلية التي تعيد لذهني صورة بيوت رام الله القديمة، وفي الحديقة كان يلفت نظري الحرص على ثلاث شجرات تاريخية، شجرتين من الصنوبر الذي ينتشر بكثافة في أرجاء رام الله، وشجرة سرو لا أظن أنها تقل بالعمر عن زميلاتها، وحين جرى سقف جزء من الحديقة لتكون جلسة شتوية، حرصت إدارة النادي على الشجرات الثلاثة، فتركت لها مجالا لتكون جذوعها في الصالة وأغصانها الوارفة تخرج من السقف بحرية وشموخ، فأظلت السقف بأغصانها الوارفة، وبقيت جذوعها تشكل جمالية في داخل الصالة المسقوفة، فالشجرة تمتلك روحا جميلة، واشعر بها تمتلك روحا وإحساسا، فهي تعطي من يعطيها وتحرم من يحرمها.
عادة كنا نلتقي أبناء البلدة مرة في الشهر هناك، نطمئن على بعضنا ونتحدث بشؤون عامة وخاصة شؤون البلدة، فكلهم يذهبون باستمرار وفي العطل الرسمية هناك، إلا أنا الوحيد المحروم بينهم من هذا الجمال، فأستمتع بسماع الأحاديث والحكايات عن البلدة، وفي معظمها حكايا وهموم يومية ولكنها تدعني أكون على تواصل ولو روحي مع بلدتي الجميلة.
بقينا بعضاً من الوقت ولكن الشباب الذين أتوا لابسين القمصان قصيرة الأكمام، لم يحتملوا برد المساء وانتظروا بتهذيب انتهائي من نفس "النارجيلة" بالتمباك العجمي، ليبدوا رغبتهم باختصار الجلسة بسبب البرد، فقدرت لهم أنهم لم يظهروا ذلك منذ البداية منتظرين انتهاء متعتي البسيطة، وغادرنا النادي واتجهوا إلى بيوتهم، لكني فضلت أن أسير في بعض من شوارع المدينة بهدوء أمتع نفسي بجو رام الله الندي الجميل، ففي الأمس نهارا كنت متعبا جسديا ونفسيا حتى أني نمت طويلا بعد الظهر، ففي الليلة التي سبقت كنت قد زرت بيت أخي الأصغر مني والأقرب لروحي جهاد، لتوديع ابنه الأصغر الذي غادرنا في الأمس للدراسة الجامعية، ورغم أني بالكاد أفرق بين أبناؤه الثلاثة وأتعامل معهم كصديق أكثر من عم، إلا أني غالبت نفسي أن لا تسقط دموعي وأنا أودع عمرو، فهو الأصغر بين إخوته وله بداخلي محبة خاصة، وأعتقد جازما أنه يكن لي نفس المشاعر وربما أكثر، فعادة ومنذ طفولته وحين يراني يجلس بجانبي ويحضنني، ودوما كان يضع رأسه على صدري ويقول لي: أستمد منك الحنان يا عمي، لذا كنت متأثرا بفراقه وسفره، مما أشعرني بتعب كبير دفعني للنوم وقت طويل بعد الظهر على غير عادة.
ها هو الصباح من جديد.. صباح رام الله والفجر أرقبه يبزغ من بين الغيوم التي تتجمع في الصباح، قطرات الندى على النافذة والأسطح المجاورة، وكالعادة منذ لحظة بزوغ أول شعاع من النور تبدأ الموسيقى الربانية من الحمائم والعصافير، فأرتدي ملابسي بعد أن أشرب كوب الشاي بالنعناع وأخرج لأمارس طقوس العشق لشوارع وأشجار ونسمات رام الله، لأتنشق الجمال القادم مع نسمات بحر يافا، لأتنسم نسمات شمالية تحمل في عبقها رائحة البلدة ونسمات مرت من أرض حبيبة، لعل هذه النسمات تحمل في ثناياها بعض من أنفاس طيفي البعيد، فأترنم ببقايا ما أحفظه من قصيدة شعبية باللهجة العراقية حفظتها وأنا طالب في العراق، ثم تحولت إلى أغنية جميلة تقول: "عزاز عدنا وياهو ينكر رمش عينه، وياهو اقرب من جفن العين لينا، يا عشقهم هيل ما عبرت سنينا، وش ما يمر بينا العمر يكثر حنينا، مدللين ويلوق لأحبابي الدلال، وشوقهم نسمة جنوب وسيرت لأهل الشمال، والعتب بشفاهم ود وحنين.. مدللين احباب قلبي مدللين".
أترنم بالأغنية عائدا لصومعتي الصغيرة، والقلب يتفطر على العراق وما حل به من دمار ومجازر، فقد استفقت على أخبار تفجيرات في الموصل، ذهبت بما يقارب المائتي مواطن، فعادت الموصل للذاكرة كما عرفتها في بداية سبعينات القرن الماضي، المدينة الهادئة الجميلة والتي يشوه وجهها الدم الآن، كما يشوه وجه العراق الجميل، فأهمس لنفسي.. انه الاحتلال وخدم الاحتلال أينما وجدوا، لا يتركون سوى الدم والقتل..
قبل أيام مرت ذكرى مجزرة تل الزعتر، مجزرة راح ضحيتها ما يقارب الخمسة الآف فلسطيني، مرت الذكرى بصمت وهدوء وبالكاد تذكرها أحد، ويظهر أنه من كثرة المجازر لم نعد نعرف ماذا سنتذكر وماذا سننسى، ولعل الخجل – إن كان هناك – بقية من خجل ما منع الذكرى من الظهور، بعد المجازر التي ارتكبناها بأنفسنا في حق بعضنا في غزة، ففصلت غزة عن الضفة وتكرس واقع مؤلم جديد بلون واحد وتوجه لفرض أحادية الفكرة والفكر، واطلع على إحصائيات لأعداد الضحايا هناك أعدتها منظمات حقوقية، فأخجل أن من ارتكب ذلك يسمي نفسه فلسطيني، فهل بعد ذلك نلوم من ارتكب المجازر بحقنا ؟؟؟
صباح آخر وحروف خمسة تجتاحني بقوة في هذا الصباح، شوق يتجدد، حب يتجدد وعشق أيضا، أكوام من الحنين تجتاح مني الروح والنفس، فأعود من العاطفة المتأججة إلى شدو فيروز، فقد كانت ولم تزل رفيقة الصباح..
سنرجع خَبَّرني العندليب..
غَداةَ التقينا على مُنحنى
بأن البلابلَ لمَّا تَزَلْ
هناك تعيش بأشعارنا
صباحكم أجمل