كُلّ عيد ميلاد وأنا سيدة الحزن والحكاية
إحسان الفقيه
قناديل تسكب في قلب العتمة غِبْطَتَها كمنقوشةِ زعترٍ على لوحٍ طينيٍّ شكّل الأبجدية الأولى في تاريخ البوح، بوحٌ من أشذاء مُعتّقة برائحة خرابيش الدفاتر والطباشير والحبر المُراق والكتب المهترئة وحقائب مدرسية ممزقّة، رائحة الأيام التي عمّدتنا بنبيذ الفرح في انتظار لحظة ماقبل سقوط المطر بقليل، حيث نكهة التراب تغْتالُنا قبل ان تعبث ببقايا نشوتنا.
كانوا يقولون للمكان رائحة وللزمان رائحة أخرى، تتوحّد الرائحتان في ذكرى ميلاد أحدنا فيندمج المكان بالزمان ويندمج وجه الذاكرة بالسنوات الطريّة من العمر، فينبثق منه فصل من "هبوب" يُقسّم علينا نسائمه وحبوب لقاحه التائهة، هبوبٌ يأتي فجأة ويذهب فجأة مثل لحظة لا نعرف متى تجيء ومتى تذهب، لكنها تتركنا في حالة دهشة وصحو دائم، يعرفها "حسّون" يقف على حافّة السور يهدهد ريشاته التي بعثرها الهواء، يعرفها غصن مُثقل بحبات التين التي لم تنضج يتّكئ على حائط يفصل بين "حاكورتين" يهتزّ قليلا ثم يهدأ، نعرفها من رائحة الطابون وميلاد رغيف طازج "ختمته الحصى الملتهبة" بختم يدينِ بارعتين في الاعداد والتقديم وتقسيم الخبز الساخن على الجيران والولايا وعابري السبيل، نشمّ تلك الرائحة فنستحضر النار والصبر ورائحة جدّاتنا ووجوههن المتعرّقة بألف صلاة وأصواتهم المهدّجة بألف دعاء.
وهو الهبوب الذي لفح "محمود درويش" ذات صباح حين احتسى قهوته فهبّت عليه ذاكرة بكل مافيها من قمح وبُنّ وثوب تُلاحق غفلته قشّة من تعب، مستحضرا حواكير وزنبق وزعتر ودحنون ووجوه فلاحين وثغاء أغنام ليكتب لنا رائعته التي انبثقت من حنجرة وموسيقى المبدع ميرسيل خليفة فيما بعد (أحِنُّ الى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي) وأنا التي لم تعرف يوما او تتعرف على لمسة الأم او طعم خبز الأم او رائحة قهوتها أراني أحب أيّ أمٍّ على هذا الكوكب وأراني أسكب حنيني مع درويش ومع ميرسيل وأغني بل وأنادي معهما أمي أمي أمي.
كل تلك الأشياء التي توقظ فينا كل ما غيّبته عنّا الحياة بحزنها وغُربتها وأمنياتها التي لم تتحقق مهموسة بما يسمى الحلم ترتشف "سُلاف الكؤوس" وتختصر ضجيج الروح العاشقة والمعذّبة والمراق ضَيْمها على جسد اللحظات المذبوحة.
اليوم وفي صفّي الأول في عقدي الرابع وكلُّ حياتنا صفوف ومدارس وشهادات، اليوم وبعد أن أتممت ثلاثة عقود بالتمام والحزن، أراني أسير بخطى مترنّحة ولا أدري هل أسكرتني الذكريات أم غيّبت عقلي الوقائع والفجائع أم أثقلتني حكاياتي الغريبة جدا والتي قلّبتني على محماسة التجارب وسحقتني في "مهباش" كان لجدي وأورثته القبيلة لأحد ابناء العمومة بعد وفاته رحمه الله.
ها أنا كبُرت أكثر مما كنت أتصور و غربلتني "لعنة" النضوج المبكر، ولذهولي اليوم أمام تلك اللعنة التي استلبستني -دون قصد مني او سعي- شكلٌ مغايرٌ يشبة الياسمين المهزوم على جدران البيوت المقنطرة، وله رائحة مختلفة تحاكي رائحة النرجس المعلّق على أسوراها المكوّنة من سلاسل حجرية صامدة في وجه المطر والريح وتعاقب الفصول واختباء الأفاعي وترصّد العقارب.
كل تلك الأشذاء اقتحمت ذاكرتي في غفلة عن كل الأشياء التي كانت مستيقظة ترقبنا، فهناك قوة كامنة تحت كل حجر وكل شجرة وخلف كل جدار يسري دفؤها في عروقنا كلما تعثّرت تلك الأصابع الشقية بأصابعنا البكر لنشتعل شهوة لا تنطفئ.
هناك مساحات تشبه اندلاع الريح في اجسادنا تمرّ على جبهاتنا الغجرية تهديها حرية الابتعاد عن ظلّها المنثور تحت أعشاش قصص الجدّات (عن بنت السلطان والجنّ والوطن والفرسان الأبطال) لطالما تقاسمناها مع بنات القرية والجيران وحلّقنا بها ومعها نحو حدود الغيم.
صرت ثلاثينية بسرعة البُراق لا البرق فقط، ولم أدري كيف أسرى بي معراج الزمن وانا التي كنت قبل لحظات نعم قبل لحظات أستشعرها وأراها طازجة المشهد، قبل لحظات كنت ألعب في الحارة مع ابن عمي "آصف" ومع "محمد ابن عمتي فاطمة" ومع صديق العمر ابن عمي مازن ومع الجميلة الطيبة "ألماز" التي لن يأكلها ذلك الوحش الذي استوطن عظامها فهناك وفي كل مراحل التاريخ فدائيون ومناضلون ومقاومون وأوفياء يسكنون النخاع وقلب النخاع في الاجساد ايضا كما في الاوطان.
هاهي آمنة ابنة عمي وشقيقة آصف أرى وجهها الجميل مُطِلاّ من "العُليّة" تدعوني لتناول "الأرز بالحليب المغمور بالسمن البلدي" وينهرها جدي قائلا "قبل قليل أكلنا خليها تُجرد معي باقي الـ"مقشة" تلك التي كنا نصنع منها المكانس الخشنة لتنظيف البيوت و"قيعان" البيوت.
ها قد بدأت حرارة الشمس بالرحيل وهانحن نلعب عسكر وحرامية وأنا كالعادة "أميرة مخطوفة" يبحث عنها الفرسان الصغار بسيوف من "تنك" الحارات وبقايا أشياء خاصة بجدي سرقناها من خمّ الدجاج المهجور.
وهاهي جدّتي تعطّرني بالصلاة على النبيّ وتُغنّي لي وهي ترتّب تناثر شعري أغنية تقول "ياشعر بنتي ياقصب يانصب" وغضبت وسام ابنة عمي كالعادة مثلما أغضب أنا دائما عندما تمدح جدتي شعرها ووسام كانت تملك أجمل ضحكة في كل القبيلة.
قبل قليل وقفت على باب الليوان حيث الباب الخشبي الضخم يكاد يُخيّل للواقف في حضرته ان الباب يترصده ليُلصِقه في الصخرة الكبيرة المنحوتة جنباتها والتي كانت تفترشها جدّتي كل يوم وقت العصر لشرب ماء الشمس ووجوه العابرين، تلك الصخرة سمعت أنها بيعت بخمسة دنانير او أكثر بقليل وكان لها شكل مستطيل أكاد أجزم أنه إرث تمّ إهداره.
كنت أقف هناك قرب الليوان غافلت الجميع كي أرى "عمر" الفارس الأول في حياتي، حين رآني تحجّج بركلة كُرة من الجرابات الصوفية كان يتقاذفها بعض الاطفال قُبالة لهفتي البكر.
رحل "عمر" رحمه الله مثلما مضى شادي في أغنية فيروز ولكننا لم نغني سوية يا عمر كما غنى شادي وحبيبته الطفلة، لسعته نحلة "غبيّة" سدّت مجرى النفس فمات شهيد العسل لا الحب، وعندما عرفت بموته وبعد زمن طويل "بكيت" لأنني لم أكن قرب زوجته وصغاره ولم أواسي والدته ولم أُقبّل يد والده اللذين لم يريدا لنا ذلك الحب ولم يكلّلا عشقنا العذري بالقبول فافترقنا دون ان يلتقي منا شيء الا العيون وهمس العيون كلما مررت به وأنا في طريقي عودتي من المدرسة ايام إجازته العسكرية، لم نتحدث وجها لوجه على الاطلاق كنا نتبادل رسائلا شفهية تحملها (حمامتنا الزاجلة) عمّته "تغريد" فالرسائل المكتوبة كانت في قريتي وعلى زمني "خطيئة كبيرة" وقد أرسلت له رسالة واحدة لم تصله لأن الوسيط بيننا كان ابن عمي "يحيى" شقيق آمنة وآصف ولم يكن رسولا أمينا إذ سلّم الرسالة لشقيقه الأكبر فوقعت الواقعة ولم يكن لردّها سبيل، أمّا هو فلم يصلني منه الا حرفا باهتا مكتوبا بالحبر على كفّ "تغريد" ذلك الحرف ورغم مرور كل هذه السنوات لا زال محفورا هنا في قلبي.
رحمك الله ياعمر وذكركم الله بالخير يا أصدقاء الطفولة ولكم أتمنى لو أني معكم الآن نلعب عسكر وحرامية مرة أخرى و بنكهة أخرى ولا أريد أن أكون الاميرة فلكلِّ أميرة تتربع على عرش قلبه الآن.
أُدلّل طفولتي كل عام في مثل هذا اليوم بأغنية ريما بندلي "طير وعلّي ياحمام فوق سطوح بيوتنا" وهي سوسنة أحلامنا التي كبرنا معها وحلمنا ان نغني ونرقص ونقفز معها، وللأسف يا ريما ها أنا أبحث عن سماء الفرح وعن غيمة حب تغفو على شبابيك عمري منذ ثلاثة عقود ولم أجدها.
ياليت الزمان نسيَني هناك وياليتني لم أكبر وياليتني أمشّط شعر القمر مع ريما بندلي هناك في قريتي في حضن جدتي وفي حضور جدي وياليتك تمرّ ببابي الآن ياعمر وتأخذني معك فيكفيني ما قد مضى.
الخيج العربي