شارعُ مخدوش بلحمٍ منطفئ!

جميل حامد

 رئيس تحرير الوسط اليوم

تشقّقَ كوكبُ الصّبح الأهوج على زجاجِ عتمةٍ في عجلةٍ من موجة هوجاء، وهرولتْ قطراتُ النّدى تُحدّقُ بينَ ثقوبِ الشمسِ، تنفشُ أرياشَ نزوتِها البوذيّةِ أنوثةً على فحيحِ مياهٍ راكدةٍ في العينيْن، كي تحضنَ أنفاسَ نرجسِهِ، وتدري أنّ ابتسامتَها الحمراءَ تسكبُهُ ظلَّ عتمةٍ حارقة، فلا تنتشلُهُ مِن بئر اللّحظةِ المكسورة، سوى بقايا فكرةٍ تأجّجتْ بمواعيد لا تَخب ُ شهوتُها، وراحتْ تلملمُ فقاعاتِ الليل النّهم في حقيبة الأمس القرمزيّ، تتلو على جدارِ شحوبِها وصايا عُرْيٍ منمّقٍ بالقصيدة....!

اليومَ عسليُّ الملامح، وككلّ يومٍ تعبُرُ خماسينيّةَ رياحِهِ مِن فناء البيتِ إلى قوافي العواصفِ، تُشهرُ سياطَ الغبارِ العوراء مجْدَ ثورةٍ في رائحةِ براءةِ التكوين!

اليومَ طحلبيُّ الموجِ يضحكُ زبدُهُ، وككلِّ يومٍ تلمع  طفيليّاتُهُ الخريفيّةُ ضبابًا في عمْقِ السّكون، ويستحمّ دمع العصافير في نبضِ الاحتراق!

كطائرةٍ جنحتْ في فضاءٍ خرافيٍّ، سقطَ في ذوبانِ عنوانٍ لا يهدأ..

مغموسًا بنبيذِ عارٍ بهيٍّ انسلَّ مِن تحت إبطِ اللّيل إلى متحفِ الغياب، يستترُ بجليدِ نوايا مُحدّبة!

تدثّرَ بعباءةِ النّكبةِ، لكن عسلَ العار ساحَ مزخرفًا بقزح الرّذيلة!

اليومَ ككلِّ عهْرٍ شتائيٍّ، يملأ دنانَ السّماء بتثاؤبِ شهوةِ أمطارٍ، لا تحُدُّها رغبةُ برْقٍ جائعٍ لهدير البحر!

رغوةُ الأمس خصبةُ الألم، ودخانُ المسافاتِ شقّتْها ياقوتيّةُ عينَيْ رؤومٍ أدماها احتضانُ قِدْرُ الجوع، كي تودعَهُ هشيمَ الرّوح إثرَ خيانةٍ!

اليومَ طربُ بيتٍ مِن الشّعر يتوشّحُ بخمارِ الشّرع، ويعزفُ بناي دغلِهِ رؤيةً معتّقةً بالحلال!

وكما دابّة الأرض تنخل شموخ الصَنوبر، وتتعربشُ غاباتِ الخبز المرّ، كذلك تتسلّقُ النّزوةُ اليومَ عهرًا، مُثقلاً بالجُبنِ المستوردِ مِن بلاد الضّياع!

وأمرّ بالشّارع الالتفافيِّ الّذي يُحيط بعنق سريري، وطنينُ مركباتٍ بكلّ ألوانِ الرّيش النّاعق برفاهيّةِ التّضليل الأزليّ، تتسمّر عند خاصرة الشّارة الحمراء، لتعبُرَ مفترقًا يعجّ بآلاف الحناجر المُقعَّرة!

تمرُّ بمحاذاة الحيّ قصيدةٌ بلهاء!

تتطايرُ أرياشُها على سريرٍ نرجسيّ!

تمرُّ في أزقّة الزفير، تُناحرُها قصبةُ نايٍ مهيّأة للهطول في نادٍ ليلي، تحتَ شعار قدسيّة الحداثة!

حقولُ النّرجس أضحتْ غوايةَ كافرٍ يتغنّى بفجرِ حبيبتِهِ الغوايةِ العصماء!

شارعٌ انغرسَ في سجّادةِ نبوءةٍ خرساء، في وتر منامٍ ناشز، وتنسّكَ في كتلةٍ من اللّحم المنطفِئ، فانتعلَ العتمةَ الموحَلة، واحتسى عصارةَ اللّوز في فنجانٍ مخدوشٍ مِن زمن العشيرة!

أمُر من نفقَ الروحِ  على  ساحلِ التَماهي

مطر بلون الألم يهطُلنا غرابة

كأنّها مسيرة في اعتصام على دوار التمنّي

كـأنّها حقل يَنتدب الشّوك حارسًا لقهره

كأنّها سلسلة تطوق الكرم العتيق بالزعتر... يخنقُها جِدار

كأنّها تنفلت من عِقال العصمة إلى  مِداد

كأنها نحن... مرضى ومهووسون بخاصرة الرقص على رعشة التكوين!

اليوم ككلِّ يوم تموت واقفاً كالأشجار تنشد من سماءِ الرب أُغنية المطر!

في العراء أنت...  تتقاطع أمنياتكَ مع عُريك المنبوذَ في سوقِ القطيع

مصلوبا بأنفاسك المتبعثرة حولَ أصابع الدهشة

محفوراً في الأُفق البعيد

تُرّممُكَ الآلهة’ كل صبحٍ على غديرِ الحلم

تستجمع أوصالكَ المنقبضة في أحشاءِ الغفوة

تنتزع من جِرار الصبح شعاعاً أبرصْ

تلتف على نهدي الصقيع

متّهم أنت في كل الأزمِنة، على رصيفِ شَفتيكَ تشقُ خفافيشَ الليل نهارًا آخر،  وفي أصقاعِ روحكَ تتصدّعُ الأمنيات انتصارًا للوجعْ

تقول:

في الصّمودِ وصايا العابثين بأقدارهِم، فالتصق برائحةِ الياسمين، وانثر في كهوفِ الصّبر بُخور العاشقين

على حصيرةِ الزيتون تشبث بالعرقْ، وانزع عن كتفيك أشلاءَ الأنينْ

غرّدْ بعيدًا عن مرمى سكوتك

أنت هنا قدرٌ رباطهُ جأشك، فاخلع  من نَعليكَ يا ابنَ التينِ والزيتونِ الزّمن الموشح بالخطايا، وانتصر لأجِنة اللوز في رحمِ الصابرينْ!