من وحي الصداقة
فاطمة الزهراء الناصري
لم أبح لها يوما بسر مما كان يؤلمني حقيقة، كان سؤالها عن سبب تجهمي كافيا لتبديد شقائي، كنت أفهم أنها لا تريد الإصرار على معرفة الكثير من خصوصياتي، وكنت أعرف لماذا لا ترغب ذلك، لم تكن تحب أن أسقط من علياء شموخي بإظهار انكساري أمام أي كان حتى أمامها، لكنها كانت متيقنة أن أسألتها وأجوبتي المغرقين في الرمزية والإيحاء كفيلين بمسح همومي، لم تكن تصر على سماع السبب الحقيقي لتعاستي الطافحة، كانت تشعر بذلك جدا، وكنت أعلم ذلك، وكانت تبدد شقائي دون أن تشعرني بأنها تفعل ذلك، كنت أفهم ذلك جيدا دون أن أشعرها أنني أفهمه.
دامت صداقتنا التوأمية تسع سنوات، لم نختلف أبد ا حول شيء ما! كنت أستحسن ما تستحسنه، وتستقبح هي كل ما أستقبحه، كنا نقتني الملابس معا، فطالما لبست بذوقي وانتعلت بذوقها، نصرف المنحة الدراسية في يوم واحد في اقتناء الكتب معا، كانت أسعد لحظات حياتنا عندما نغرق في مكتبات الحبوس، نهرول من محل لآخر، تجهض أعيننا أمام كتاب نفيس تارة، و نصاب بالذهول أمام تلك الموسوعة الباهضة الثمن تارة، وكثيرا ما يتمزق قلبنا حرمانا أمام كتاب تحدث أستاذ ما عن أهميته.
"حياة" صديقتي، كانت الإنسانة التي لم أشعر يوما أن حبها فتر اتجاهي لأي سبب من الأسباب، رغم أنه كان مكتوما إلى أبعد الحدود، إنها تعرف كل شيء سوى أبجديات الحسد والحقد والأنانية وكل أمراض القلوب، كان قلبها أبيضا كالحليب ومنيرا كالبدر، من أمقت الأشياء إليها التطفل على الآخرين، كانت عزيزة النفس جدا، رغم أنها تحب البساطة في كل شيء، لم تشتك يوما بانكسار، ولم تعط أحدا الفرصة ليذل نفسه أمامها بالشكوى.
تزوجت هي وأنجبت عمران، و تابعت أنا الدراسة إلى سلك الدكتوراه، وأنا الآن أخط هذه السطور بدموعي شوقا إليها وهياما بها وحبا وألفة، قليل في حقها أن أقول إنها كالأم أو الأخت أو ما شئت، فقد كان حبها يفيض على أن يستوعبه ميزان المقارنة ولو وضع فيه حب الأولين والآخرين، ستشيل كل الموازين أمام حبنا، كان اسمها نكرة؛ "حياة"- كانت تريد أن تنير حياة الجميع- لكني عرفته بضمير المتكلم لتصبح حياتي أنا!
في اللحظات الأكثر حميمية والتي كنا ننغمس إثرها في براءة طفولية بالغة، نتوجس خيفة من أن تباعد بيننا الأيام، كنت أتصورني كالسمكة ترمى خارج البحر فتموت شر ميتة، لكن الظروف مهما اختلفت بيننا وباعدتنا عن بعضنا، كانت أضعف من أن تنال من إخلاصنا أو يفتر على إثرها حبنا.
لا أدري لماذا وعدتها يوما- ونحن نمشي في أحد شوارع البرنوصي- بأسلوب مغرق في الطفولية، أنني سأمنحها كل ما تشتهي عندما يفتح الله علي بالوظيفة والمال، كنا ما نزال ندرس في الكلية! فكيف عرفت إذن أن حياتينا ستكونا مختلفتين؟ لقد تفرست ذلك من اختلاف بعض أهم طباعنا، لم تكن تصر على أي شيء، بينما كنت أشهر سيف التحدي في وجه كل شيء، قد يكون هذا من أسباب انجذابنا لبعضنا، كانت رزينة الطباع هادئة الفكر، كتومة إلى حد بعيد، بينما أنا سريعة الحركة والقول مشاكسة الفكر جدا، لا ينتابني شعور إلا نضحت به ملامحي على التو.
شعرت يوم زفافها بإحساس لا قبل لي به! كان نتيجة لاختلاط مشاعر الفرحة لما أراه من فرح الناس، لكن شعورا عميقا بالتعاسة كان يتملكني لأني كنت أرى هذا الاحتفال إعلانا مستفزا لافتراق سكتي سيرنا، كنت حانقة على كل من يبالغ في التعبير عن فرحه، أتصور أنه يقصد الشماتة بي، بعد أن وجدتني وحيدة على السكة، سألتني كعادتها عما بي وهي أعلم بذلك، تكلفت الابتسام فلم يكن تكلفي إلا تعبيرا عن المزيد من تعاستي، لا مجال للتصنع أمامها أبدا! وكان مما ضاعف من غمي أني كنت أعرف قدر إخلاصها لما تقبل عليه، ستنغمس كلية- لا محالة- في مشاغل الزوجية ثم الأمومة، فهل ستمنحني بعدها بعضا من تلك اللحظات؟