فاعمل و اعمل
فاعمل و اعمل
يمان حكيم*
إن الإنسان يعيش في هذه الدنيا و على وجه هذه الأرض, دون أن يدري ما ينتظره بعد موته أو حتى ما يلاقيه أولئك الذين سبقوه في أحشاء هذه الأرض, و لن يعرف ذلك حتى يجتاز الحدود, حدود الحياة, هذه الحدود الغير مرئية إلاّ على الذين اجتازوها.
هذه الحدود التي لا يمكن عبورها إلاّ إذا دفعت تذكرة الدخول و الخروج, أما تذكرة الخروج فهي حياتك و أما تذكرة الدخول فهي أعمالك....
فاعمل و اعمل حتى تجتاز هذه الحدود دون أن تقف فيها طويلاً فالحياة رحلة و الموت رحلة و في كلٍ ندفع الثمن ففي الحياة فأول ثمن ندفعه هو صرختنا و بكاؤنا عندما نولد ثم يغلو الثمن و يغلو حتى آخر قطرة في أنفاس ذلك الإنسان ثم ينتقل إلى الرحلة الأطول رحلة الجزاء جزاء ما دفع في الدنيا و أول ثمن يدفعه في هذه الرحلة هو حياته و أنفاسه.
أما بالنسبة للحدود فإما أن تطيل البقاء فيها و ذلك لكثرة الثقال التي تحملها أو تنتقل إلى رحلتك السعيدة بكل خفة و سهولة...
و لكن يبقى ذلك العالم مجهول لدى الإنسان, و لا يذكره إلاّ إذا فات الأوان أو كان من الذين أنعم الله عليهم و فتح لهم بصيرتهم و بصرهم حتى يشعروا بذلك قبل ذلك الأوان.
و هذا ما حصل مع بطلة قصتنا في هذه المرة.
فقد أتت إليّ في يوم من الأيام و دموعها على خديها حاولت معها جاهداً حتى استسلمت أخيراً و بدأت تسرد لي ما حصل معها.
منذ مدّة ليست بطويلة. استيقظت ذات صباح على صوت بكاء و عويل, ففزعت لهذا و نهضت إلى النافذة لأرى ماذا يحدث و إذا بعربة يسوقها حصانان و استقلّت جنازة عليها, و كان فوق رأس الفتاة شيخ يقرأ القرآن و يلحقها سيارات كثيرة... فحزنت لأجلها و ظننت أنها ابنة جيراننا لأن الصوت كان قريباً جداً خرجت من الغرفة و إذا بالصوت يقترب أكثر فأكثر اتجهت نحو غرفة الجلوس و إذا بنساء كثيرات يرتدين السواد فعجبت للأمر, و خرجت نحو الشرفة لأجد جدتي و قد جلست تبكي و بجانبها أمي يبدو عليها الجزع الشديد, و لكن هناك كانت الجنازة تقترب أكثر و أكثر! اندفعت على حافة الشرفة لأرى الميتة عن قرب و لكن يا لهول ما رأيت, لقد رأيت نفسي نعم لقد رأيت نفسي و قد اضطجعت على تلك السيارة الخشبية و أحاطت بي الورود من كل الجهات لم أصدق نفسي فمسحت عيني و اقتربت أكثر و لكن ... إنها الحقيقة هذه أنا و لا شكّ في ذلك.
ثم ركضت نحو أمي أهزها و أقول أمي ... أمي انظري هذه أنا... أنا هنا و لست تلك الميتة في العربة و لكن أمي ازدادت بكاءً و خبأت وجهها بمنديل كان معها..
تركتها و اندفعت نحو جدتي... أقول لها جدتي انظري هناك إنها أنا هذه الفتاة هي أنا و كيف كيف ذلك... لكن جدتي أخذت تهدئ من روعي و تضمني نحوها دون جدوى ... رأيت نفسي أندفع خارج المنزل و أخرج إلى الشوارع و أمشي و أنا حائرة في أمري و أنا في الطريق و جدت أختي عائدةً من عملها و لكن الحزن بادٍ على وجهها و عندما رأتني كادت لا تصدق نفسها و أخذت تضمني.. و رحت أشرح لها ما حصل لي. بينما أنا كذلك رأيت الجنازة نفسها و الشيخ نفسه و الناس يمشون من خلفها.
عندما رأيت ذلك لم أستطع التحمل تركت أختي و هلعت نحو تلك الفتاة جلست بجانبها و حاولت محادثتها و لكن الغريب أنه ما من أحد كان يستطيع رؤيتي...
ظللت على هذا الحال أحادثها و هي لا تنطق و لا ببنت كلمة حتى وصلنا إلى المقبرة, و بعد أن قرؤوا عليها القرآن أنزلوها إلى حفرة مظلمة بالكاد تتسع لها و عندما بدأوا برد التراب عليها لم أر نفسي إلا بجانبها..
كان الجو مخيفاً جداً بعد أن ذهب الناس فالظلمة حالكة و الوحدة قاتلة .. و لكن هناك من بعيد سمعت أصوات صريخ قوية راحت تعلو و تعلو .. حتى رأيت أناس يضربون بمطارق من حديد على رؤوسهم فاقتربت منهم و قلت ما ألفاكم على هذا الحال قالوا لقد كنا من المكذبين ثم رأيت أناس آخرين تلتهب النيران من حولهم و قد أذن للصلاة فقاموا فتوضؤا من الماء المغلي حتى سقطت عظامهم ثم أقبلوا على صخرة حامية فصلوا عليها فقلت و أنتم قالوا لم نكن من المصلين ثم ألفة أناس تجتمع من حولهم العقارب و الحيات و تلدغهم حتى تكاد تخنقهم فقلت لهم و انتم قالوا لم نكن نطعم المسكين و كنا نخوض مع الخائضين ...
و بينما أنا كذلك مررت على أناس يجلسون و يتسامرون من حولهم الرياض و النهار و كأنهم يعيشون في نعيم فقلت السلام عليكم و رحمة الله فأجابوا و عليك السلام تفضلي يا أختاه فقلت من أنتم قالوا نحن من انعم الله علينا بنعمة الإيمان قالوا و أنت قلت لا أعلم..
قالوا و ما بالك فرحت أقص عليهم القصة فقالوا لا تبالي ستعودين إلى الحياة و ذلك أن وقت موتك لم يحن بعد و الله أعلم به فقلت لهم و هذه الفتاة ما بالها لا تحاسب و لا تسأل من الملكين قالوا هذا حالك في المستقبل و لا يمكن أن تري ماذا يصنع بها إلا ما عملت في حياتها و بينما أنا أتحدث معهم وجدت نفسي بين أهلي و لكن الحال ظلّ كما هو فأمي تبكي لفجيعتها و الناس يأتون التعازي فأحسست نفسي بالضائعة فلا أنا من هؤلاء و لا أنا من هؤلاء ذهبت إلى فراشي و حاولت النوم و الدموع في عيني و صحيت على صوت أخي يناديني فصحيت و ذهبت إليهم أقص لهم ما عشت فيه فضحكوا عليّ و سخروا مني و لكن هذا لم يكن مناماً عشته بل هي مرحلة مرعبة من حياتي تعلمت منها الكثير.
*أديبة من سورية