استقواء كما الخذلان

استقواء كما الخذلان

محمد السيد

[email protected]

قال تعالى: (لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة..)سورة التوبة: الآية (48)

وهم قد خرجوا فينا، وقد غادرتهم النصيحة إلى غير رجعة، فهم يسيرون مكبلين بأصفاد الخديعة، يساومون خطانا، كي تتكسر موجاتها على صخر المرافىء الغريبة، يحشدون عتمات الفِكَر فوق دروبنا، كي نسقط في حفر الحوار المقهور، بين ضعف وقوة، بين هزيمة داخلية مفتعلة، وغطرسة أنتجها للمتغرطس ضغط مصنوع للواقع الزائف الذي نعيش (واتقوا الله ويعلمكم الله) كل مايفيد في سرى الطرق، (ويخرج أضغانهم)، تعلمونها من (لحن القول) اليساري العلماني، الذي يعلكون به ألسنتهم، ويسودون به صحائفهم، ويزيفون به مواقفهم، بَعدَ إذ أعطوكم عهودهم ومواثيقهم على الكفاح من أجل الحرية، فلا تغرنكم الكثرة التي يوهمون الغير أنهم يمتلكونها، فإنها في الحقيقة أصوات تبحث عن أسماع، ولا شيء بعد ذلك إلا الدخول في متاهة القطيعة، وقد أخبرنا الله من قبل أن سننه ماضية لاتتخلف لحظة، فقال جل من قائل: (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون)، لايخرجون لأنهم: (في ريبهم يترددون) والله (كره انبعاثهم فثبطهم)، حتى لايكونوا في الجمع، ثم يُعملون فيه معاول الإحباط، معبأة بنفاق، وخداع، وطموحات، وأفكار ماتت على بوابات صدورها، تبتغي عرضاَ قريباً وسفراً قاصداً، فإذا ماوجدت الشقة بعيدة، والتكاليف عالية، فسيخرجون لك شتى الأعذار، كي يتركوك في عُرض الطريق مكشوفاً، بعد أن أردت أن تغطي المسيرة الفاضلة بكابر من التنويع والتعدد والتجميع والكثرة.. فخذلك كل ذلك عند أول خطر، أو عند قدوم أول مكسب، (وماتخفي صدروهم أعظم)، وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه الكلمات الخالدة.. (كما يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال ص1661). نموذج للوهن الذي يدب في صفوف حركة الحرية السائرة نحو الخلاص من الطاغوت، حيث لاتنال تلك الحركة توفيق الله ونصره، لما تحتويه من عناصر الخذلان الخارجة عن حدود النقاء والوفاء والثبات على المبدأ.

إن محاولات الاستقواء بكل من هب ودب من أجل دعم مسيرة الخلاص والحرية والوصول إلى شاطىء الأمان بالأوطان، محكوم عليها بسنن الله الماضية منذ أوجد الله الإنسان على هذه الأرض: (لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالكم، يبغونكم الفتنة..).

وأول الخبال: مستقبل باهت الأنباء، ومجاهيل ظلمة ينشئها في أفق التحرك صدور تغلي: بشتى الطموحات، ومتفارقات الأهداف، وإحنٌ حاولت الخفوت مؤقتاً، وأطماع لم تضبطها عند الكثيرين مُثُل الأخلاق وحقائق الإيمان، بل أطلقها في نفوس هؤلاء أصلاً: غوايات السلطان، والافتتان بمتعلقاته، يبحثون عنها في كل مكان، ويسلكون إليها كل الأساليب والوسائل، فإن وجدوها عند غيركم، تخلوا عن كل المواثيق (وتركوك قائماً) وثاني الخبال ذلك الحنق الذي ينتاب الكثير من النفوس داخلنا، إذا مارأت اتخاذ رؤوس لاترعوي أحياناً عن إعلان غير مجامل، لما تفيض به النفوس من أسرار الخلط، وأقدار الأرواح الهاربة تتسرب خلسة فوق القراطيس، أو في التصريحات الشفهية، وذلك بما يثير الحفيظة، وينشىء خلخلة الصفوف، ويبعث بأقسى العتب: أن سار الركب في طريق: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة). هذا عدا عن فاعلية عمل: (وفيكم سماعون لهم)؛ إذ تسكنه الفتنة الصماء العمياء، أفنترك الهوى يثمر في ساحاتنا جدلاً مفرقاً أن جمعنا جمعاً هو الغثاء إذا ما أقبل الجِدُّ، وحطَّ السيل من مكامنه..؟! فضلاً عما يحدثه الاختلاط الطويل بمثل هؤلاء من عدوى في الفكر والخلق والسلوك.

وثالث الخبال (أن تحبط أعمالكم وأنتم لاتشعرون) فالخوف الخوف من أن تحبط الأعمال، ونحن نصنع الأحلام، من خيوط غير عابئة بالتلاحم والتعاضد الذي لاينفك أبداً، فهي لاتتوقف أبداً عن اجترار الكلمات الميتة، التي تكن في أنصالها كل السكاكين النائمة، مذ أدمنت فعل إغلاق الأبواب خلفها، واستعادة قصة النضال والرفاق بمسحة (ليبرالية) باهتة، وعناد لايلين لتوجيه رب العالمين.

إن صناعة الأحلام على هذه الطريقة من المباهاة بالجمع الهش، يلتئم على غير رؤية شفيفة، لاتصنع مصرع الطغاة، ولاتحفظ الطهر للأوقات، ولاترسل الرسائل واضحة إلي كل الجهات، تردد مع الشاعر:

مـن  ليس يملك منعة من iiدائه
الـمـجد إيماني بوهج iiحقيقتي
بحضارتي والكون خلفي iiلاهث


مـاكـان يـشفيه اجتماع iiأساة
بالمطلق بالمخزون من عزماتي
يـشتاق لمح النور من iiمشكاتي

إن صناعة الأحلام على هذه الطريقة غير سديد، لأنه يصنع خليطاً متردداً متناكفاً، إذا جمعته على قواسم، مزقته مطامح ورؤى متنافرة، وإذا أنت حاولت تقويته بشيء من العزائم، وجدت الإيمان المتضعضع يبعث الخور رسولاً للقلوب المتناطحة.. وصدق الله العظيم القائل: (لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالاً..) والقائل: (يجادلونك في الحق بعد ماتبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).