نزعات نفسية بشرية .. وتربية قرآنية عظيمة
نزعات نفسية بشرية .. وتربية قرآنية عظيمة
محمد السيد
قال تعالى : (( ورفعنا لك ذكرك .. )) الانشراح آية _ 4 _
الروح تنفتح على الدروب ، والدرب طويل ، والزاد تراوده اللافتات الفاتنة ، تبعد الباحثين عن الخلاص ، فتأكل أوقاتهم ، وتشغل أرواحهم بفاتنة الأنا، وذل الحنين الدائم للاسم اللامع .. ترهة صنعتها روح العصر ، وسكبت منها الكثير من التبرج في الأواني الذهبية ..وذلك من أجل تنمية النفاق ، وفتح المدن الصاخبة للانتشاء بالرياء والغش والانتفاخ الزائف .. ولبدء مجازر المزاودة على قتل القيم ..
يا طيبة .. ها أنا الإنسان وأنتِ نسير ، نستظل بـظل " ورفعنا لك ذكرك " ، و ها هي الجموع لا تكل ولا تمل ، تهاجر إليكِ ، كي تقطف من عَرْفِ الطاهر الطهور عظيم الذكر ، ذلك الذكر الذي لم يعمل له صاحب الذكرى لحظة واحدة .. بل هو جاء محمولاً إليه على أجنحة أمين السماء هدية مضمخة بعطف رباني على أمين الأرض ومن شملهم نور اليقين فكانوا جسوراً لعبور الأجيال المهتدية ، عرفوا كيف الدخول إلى القلوب ، فكان الإخلاص لله ثم الحنو على جراح وآهات الناس سبيلهم للوصول ، نابذين الحرص على الاسم اللامع، مستمسكين بمؤسسة الخدمة الإيمانية ، التي تجعل الاسم عند الله ملفعاً بالرضى والقبول حتى إذا هجرت القلوب كل التطلع الآني ، وخلت من حظوظها النفوس ، أرسل رب العالمين الاسم لامعاً في الناس ، فوطأ له القلوب ، و أهدى له القبول ،ليس من أجل الفرد الواحد أو الجيل الواحد .. بل ليكون الذكر بريداً مستمراً للأرواح يجمعها إذا افترقت ، و يوقظها إذا غفلت ، ويبعث فيها الفاعلية إذا تراخت وهذا الذي أتينا على ذكره في السطور الآنفة ، إن هو إلا التربية القرآنية لخطٍ من خطوط النفس الإنسانية .. تلك التربية التي تجعل كل حركة و سكنة في هذا الكون مرتبطة بالموجد الواحد الأحد ، وذلك كي تخلص القلوب ، وتصفو الممارسات ، فلا يشوبها شيء من التنافسات غير الشريفة ، التي تعكر صفو الحياة الإنسانية ، وتخرج الظلم من وكره .
إن جعل الشهرة والاسم اللامع هدفين في الحياة الإنسانية المعاصرة هما آلية من آليات الليبرالية الرأسمالية الفردية ، تحاول هذه الليبرالية اليوم فرضها في العالم ، لتخرق من خلالها المجتمعات ، وتعلن سيادة رؤية الرجل الأبيض على الجميع ، بصورة خضوع طوعي لها أو بصورة قسرية جبرية وبالقوة المتوحشة إن لزم الأمر .. وقد خدمت تطورات وسائل الاتصال الحديثة هذه الآلية خدمة جلى ؛ إذ أصبح ظهور الاسم ولمعانه يتمان في لحظات ، سواء كان المقصود جعله قامة شامخة مدججة بأنواع المعارف والخبرات والألقاب زوراً وبهتاناً ، أو كان المقصود تحطيم الصورة ، وطمس حقيقتها وإرسالها إلى الحضيض ، و أيضاً زوراً وبهتاناً .. وكل ذلك يجري حسب الطلب وعلى قياس الرغائب والأهواء لأصحاب هذه الوسائل والمتحكمين فيها ..
وإذن فإن السؤال الذي يطرح في هذا السياق هو : كيف نتصرف نحن أصحاب مشروع : " ورفعنا لك ذكرك " . ما هي آلياتنا وتربيتنا التي تستطيع أن تنقذ الناس من هذا الانحراف البشري . الذي يهدد العالم
بفقدان القيم وسيادة النفاق والافتراء والبهتان والتضليل ، وبالتالي سيطرة مجموعات صغيرة تحمل طموحات هيمنية إجرامية ، تبتغي لها السيادة والمرور فوق جثة الأخلاق والحب الإنساني ، فترفع و تعلي من يخدم في هذا الاتجاه وتوطئ له الشهرة وذيوع الصيت ، وتخفض وتحطم من يظل متمسكاً بالقيم ، منافحاً عن الإنسان ، مقاوماً للذل والعار والنفاق . تلك الخصال التي تفوح روائحها النتنة اليوم من جنبات العالم الأربع ، وتحملها رياح غربية أمريكية وغير أمريكية محاولة إجبار الناس في شتى أقطارهم على شم النتن وإلا ..!! ..
" لا تحسبن الذين يفرحون بما أتَوْا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذابٌ أليم " آل عمران _ 118 _
هذا هو القرآن كتاب الله العظيم الكريم ، وهذا هو منهجه في إدارة هذا الخط النفسي في الكيان البشري .. وهذا المنهج يشكل قضية مصيرية في حياة المؤمن و آخرته .
إنه لا ينكر وجود هذه النزعة في النفس الإنسانية ، بل هو يعترف بوجودها . وهو في الوقت نفسه لا يدعها تذهب في الحفر داخل النفس لتستولي على الإدارة والتوجه ، وفي ذات الوقت لا يحشرها ويكبتها ليقتل الموهبة، أو يوقف المبادرة .. لا أبداً ، إنه يتسامى بها إلى مراقي الصدق أولاً ، بأن يكون هناك فعل وموهبة ومبادرة ، وجميعها متميزة أو على الأقل ذات قيمة .. وبذلك ينتفي الكذب والافتراء والتزوير .
ثم تأتي الخطوة الثانية وهي مقت حب الظهور المرائي المنافق .. : " ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا بمفازة من العذاب " ذلك الفرح الذي يبعث على الانتفاش والافتخار الكاذب والكبر القاتل .. وكلها عذابات دنيوية ، تترتب على الفرح المتكبر المتعالي بأي عمل مهما كان نوعه ... وهو فرح ينشئ تنافساً غير شريف ، يؤدي إلى عواقب وخيمة من التباعد والتنابز و التنابذ والغيبة والبهتان ، وفي هذا ما فيه من قتل الهمم ، وإرباك الأمم .. وهو عينه ما نراه اليوم من كذب وتزوير وتضليل تحمله وسائل الإعلام عن المتنافسين على الزعامات في الديمقراطيات الكبرى في الدعايات الانتخابية أو في إشعال الحروب و تزيين أهدافها .. وأخيراً تأتي المرحلة الثالثة وهي تخص المؤمنين حقاً إذ يخوفهم باليوم الآخر و المآلات الموحشة المحزنة التي تنتظر من يعطي نفسه هواها ، فلا يكون له من دينه وإيمانه رقيب على تطلعاتها .. فتهوي به تهوراتها في حب الظهور والشهرة إلى العذاب الأليم : " ولهم عذابٌ أليمٌ ".. وهذا هو الرأي ، والله أعلم ..