دور الأخلاق في مسيرة المسلم الداعية

دور الأخلاق في مسيرة المسلم الداعية

محمد السيد

[email protected]

قال تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " الروم _ 21 _

( ومن أنفسكم ) ، ( لتسكنوا إليها ) ، ( بينكم مودة ورحمة ) ، ( في ذلك لآيات ) .

مليأ أتأمل فيك أيتها الآيات ، وأقول : أهي النور يسطع كفه في الآفاق ، فيضيء يومي والآتيات ..؟ أم هي الرسالة الغالية ، تحمل لي وللأجيال فعل الإقدام أبداً نحو الإحسان ..؟ أم أنها الانسجام السلس الحنون مع الفطرة الإنسانية ومع حركة الكون والسنن الرباني الغالي ..؟ إنها كل ذلك والبشارة الربانية ، تنتظر المنسجمين مع وقع النشيد الرباني ، يلف الكون بأسمى الكلام ، وأنقى الحروف ، وأغلى أعطيات السلوك ..

وأول الغيث وُدُّ النفس : ( خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ) أليست الحليلة بقول ربنا من أنفسنا..؟ فكيف يذهب البعض رجالاً وركباناً إلى عقوق هذه النفس ؟! أيجرؤ محزون على عقر ذاته ..؟

ألا أيهذا الفاعل تلك الشناعات ارْعَوِ ، وقُدْ لنفسك من نفسك ، وانزل بالمودة _ التي تشمل الحب والرحمة والعدل واتباع الفطرة _ على قلب الجزء الرقيق الحبيب من نفسك ، واستمع بتأمل وتدبر لربك يناديك بمودة قائلاً :  ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات)

فهذه الكلمات والحروف السامقة تقول لك _ إن أنت تدبرتها ملياً _ إن وُد النفس فرض ، وهو فرض يزيده رباطاً تلك السلسلة من البنين والحفدة ، تسير مع امتداد الزمان ، وتأتي برزق الله الطيب ، إن أنت طيبت حياة تلك الحليلة التي هي من نفسك ، ولم تحول أيامها إلى نكدٍ ، من ظلامات عادات وتقاليد بالية لا علاقة لها بإسلام ولا برجولة ، أو من أوهام توحي لمتوهمها أنه في طاعة لأمٍّ أو لأبٍ ، عندما يرمي جزء نفسه بكل ذلك الإهمال أو الابتذال أو الاحتقار أو الخلق السيء النكد ؛ الذي يحاول بشكل مزرٍ أن يفرض الهيمنة والغطرسة الذكورية _ على اعتبار أن هذا الجزء مخلوق أدنى متخلف لا ينقاد إلا بالقوة والأوامر والنواهي غير المفهومة وغير المسوغة ، وما كان الخلق السيء هذا البعيد عن المودة والرحمة والمضاد لهما تماماً ، ما كان يوماً سبيلاً لطاعة أب أو أمّ ولا هو طريق إلى نيل احترام ، أو صنع أهل بيت حريصين على عشٍّ فرض الله على ساكنيه أن يبنى بالمودة والرحمة والسكن . إن السبيل إلى ذلك كله ، أن يكون المسلم رب البيت مقتدياً برسوله الكريم ؛ الذي لم يؤذِ جزء نفسه يوماً ولو بكلمة غير مناسبة وكان كما قالت عائشة رضي الله عنها : " كان خلقه القرآن " ، ووصفه ربه جل وعلا أعلى وصف حين قال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ، ولقد اقتدى أكابر الصحابة بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعاملهم مع بيوتهم وأجزاء أنفسهم ، لأنهم علموا حق العلم أن تلك البيوت إن هي اعْتَلَت ونَمَتْ وأغدقت الود والرحمة والعدل ، أطلقت شذى كل ذلك في محيطها ومجتمعها ، ثم في العالمين اقتداءً بها .. ألم يقل الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه : " إنما بعثت لأتمم

مكارم الأخلاق " ..؟ وهو بذلك جعل الاخلاق الكريمة أَولى بندٍ في مسيرة الداعية ، إذ كان توجيهه أن : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً .." وكان تأكيده على خيرية رجال وصفهم بقوله : " وخياركم خياركم لنسائهم " _ رواه الترمذي وقال حسن صحيح _    

وهو في الأصل قال عليه الصلاة والسلام : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه .." _ رواه الترمذي وأحمد _ .. فلم يكتف بتحقيق الدين في الرجل الخاطب ، بل جعل الخلق ملازماً للدين ، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن صاحب الدين قد لا يكون صاحب خلق ، وفي هذا ما فيه من تفويت بناء بيت يكون قدوةً ونبراساً .. فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد بناء أساسات متينة في الإسلام ؛ بيوتاً تشع منها أنوار المودة والرحمة ، وتحيطها أساسات السعادة والسكن ، وتلازمها أفراح العدل والتقى ، وتبعث في الدنى رسالة آية تهدي التائهين إلى فعل الإسلام في الكيان الأول واللبنة الأولى في المجتمع ، وكيف يقيمها على قواعد من الهدي الرباني .. الصانع للخلق القدوة يحمله المسلم الداعية ، فينشر عطره أينما توجه وكيفما تحرك، وأينما حلّ وإن  وجيز القول في ذلك كله ، هو ما قاله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله " . وإن بيان الحال الذي طلب من المسلمين أن يكونوا عليه ؛ لينالوا رضاه ومكرمته ، ما كان من قوله في حجة الوداع : " ألا واستوصوا بالنساء خيراً " ..

إن تأكيدي على هذا الذي تقدمت به في بيان ما يجب أن يتحلى به المسلم الداعية من خلق ومودة ورحمة ، يبذلها جميعاً هينة لينة في بيته لجزء نفسه ، هو تأكيد وحرصٌ مني على نجاح الداعية في أن يكون القدوة والأسوة الحسنة للآخرين داخل الكيان الأساس للمجتمع .. وذلك لعلمي أن هذا الداعية إن لم ينجح في هذا الميدان ، وحوّل بسوء خلقه عشَّه إلى جحيم أو " منكدة " كان في غيره من الميادين أفشل وأكثر إخفاقاً ، ولو أنه بدا أمام الناس في ظاهر الأمر على غير ذلك .. وشمله قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :

 ومهما تكن عند امرئٍ من خليقة       وإن خالها تخفى على الناس تُعلَم

وقد كانت بداية دعوة رسول الله في أهل بيته ، وقد نجح فيها نجاحاً باهراً .. ثم كان في العشيرة وهي الكيان الأكبر ثم في العرب جميعاً ، وقد كان نجاحه صلى الله عليه وسلم فيها تاماً ومعجباً .

ألا أيهذا الساري : بسيرة الحبيب اقتده ، وابلغ السحاب بخلقه ، واملأ الدنى بقدوة تفيض على العالمين بجواهر المودة ، التي ابتدأت منذ النفس ، وامتدت في العالمين قلوباً مسكونة بالود وحب الخير للناس جميعاً ، إذ يؤوون إلى مقام الهدى ، رافعين أنفسهم بهتاف المجد المعبأ بأزهى خلق ، وأرفع قدوة ، والمسطر بأقدس حروف ، وبأغلى المعاني ، تروم الثريا ، ولا تنفك تقصف الشادين بالود والرحمة ، لتنجلي الساحات عن قول ربنا جل وعلا : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) ، وتتزيا البيوتات بزي قول رسولنا صلى الله عليه وسلم : " لا يَفْرَكُ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر " أو قال "غيره" . _ رواه مسلم _ " فاستوصوا بالنساء خيراً " وإلا فستكونون في الحومة غير القدوة ، ويصدق فيكم قول القائلين المغرضين من أعداءٍ و علمانيين : إنكم أعداء المرأة .. معرضون عن توجيه دينكم ونبيكم والعياذ بالله .. هذا والله أعلم .