انتفِضْ.. يا عراق

انتفِضْ.. يا عراق

بقلم : ابنة الحدباء

وقفتُ على أعتابِ وطني الجريحِ لأصفهُ.. فهاجَ قلمي الرضيعُ وماجَ... وتساءلتُ: كيف سيسعفني المِدادُ؟… كي أترجم بالكلماتِ والحروفِ ما يحملهُ وجداني، وما تعتملهُ جوانحي، وكيفَ سأفيهِ حقهُ وقد جادت قريحةُ الشعراءِ والأُدباءِ  بالتغني بهِ، وسطّر الشرفاءُ في شموخهِ وإبائهِ ما يعجزُ عن ذلك الوصف وكيفَ لمن يعشقُ ثرى وطنهِ الأسيرِ.. الذي يراهُ الجنّةَ على الأرضِ بنخيلهِ الباسق، وجنائنهِ المعلَّقةِ، ونُصبهِ الشامخةِ، وتضحياتهِ الجمّةِ،.. ليهبهُ غيضاً من فيضِ ما اتصفَ بهِ..

إنهُ العراق!.. صِنوانُ المجدِ والفخار، وعروسُ الدولِ، ورمزُ السؤددِ، ونبضُ الأحرار، وأرضُ الرسُلِ والأئمةِ والأخيارِ، وبلادُ ما بينَ النهرينِ، ومهدُ الحضاراتِ وقبلةُ العلمِ والعلماءِ، وغُصّةٌ وعلقمٌ بحلوقِ المستعمرينِ الأذناب..

إنهُ توأمُ روحي ومَبعثُ أملي..

إنهُ عراقي الأشمّ.. بصورِ مدنهِ الساحرةِ التي ما زالت عالقةً في مخيّلتي..

إنها بغدادُ الرشيدِ بروعتها، ومَوصل الحدباء بشموخها، وفلوجةُ الإباءِ ومقبرةُ الغزاةِ بمقاومتها، وصرْحٌ شامخٌ يرسمُ لوحاتٍ لإبائهِ وتاريخهِ التليدِ..

هذا العراقُ بقيَ راسخاً في عقلي وقلبي، وأرقبُ عن كثبٍ الركبَ الانبطاحيَّ وهو يُقبّل أيادي المغتصبينَ، ويلعقُ ثمنَ الخيانةِ والعمالة والغدر... بيعاً وتنازلاً وتخاذلاً، ويُسطّرُ بدماءِ الشعوبِ مُعلّقاتٍ تَرسمُ حروفاً، وتصرخُ مُدّويةً مِن كلّ حدبٍ وصوبٍ تحملُ الأنينَ، فَيسجدُ ذلك الركبُ ويركعُ صاغراً أمامَ أربابِ الإجرامِ والسفاحين...

لم يرتضوا لك الشموخَ يا توأمي العتيد، فأبتْ نُفوسهم الآثمةُ التي تحملُ الدونيّةَ في كل شيءٍ... إلا أن تنصبَ لكَ المكائدَ تحت جنحِ الليل الأسودِ.. لينالوا من هذا الشموخِ والإباءِ، ويُصدّروا لنا ديمقراطيَتَهم بِعُلبٍ متخمةٍ بأشلاءِ الإنسانيةِ، كما يُصدّرونَ عدالتَهم بعبواتٍ من القذائفِ والصواريخِ العابرةِ، وحرّيَتَهم بملايينِ الأطنانِِ من الأسلحةِ المحرَّمةِ، ولم يبقَ في جُعبتِهِم إلا الدخولُ لوكرِ الليثِ مهما كانتْ الأثمانُ، فصَرْحُ ساديّتهم لن يكتملَ إلا بتحطيمِ آخر صروح العزّة والكرامةِ والكبرياءِ، لِيضمّونا لركبِهمُ التخاذليّ، ولِيُلبسونا أثوابَ الأمركةِ حتى نعتنقَ الصهيونيةَ شعاراً، ونؤدي اليمينَ الذي سبَقنا بهِ بائعو الكرامةِ بسوق النخّاسة الدَوليِّ، حيثُ تبَاعُ الأوطانُ وتُشترى، للذينَ يهدرونَ إنسانيةَ الشعوبِ ويَنتهكون كرامتها..

صَرخَ المؤمنونَ والشرفاءُ : واغوثاهُ!؟..

إنها عاصمةُ الرشيدِ، ومهدُ الحضاراتِ، وخِلافةُ الإسلامِفكيفَ يُدنّسُ عِطرَ أنفاسِها الطاهرةِ سفاحو العصرِ والحاقدونَ من المجوسِ، وذئاب الليلِ المنتشينِ بأنخابِ العمالةِ، وأشباه الرجالِ الذينَ امتطوا مدرّعات الغزاةفكيفَ إرتضى أهل ديننا ونخوتنا وعروبتنا هذا الغدرَ بأيديهم وهم الأقربون؟..

أجابهمُ النخّاسُ :

" إنهُ التحريرُ والانعتاقُ  يا بني وطني !.. سنشمخُ ببناءِ صرح ديمقراطيتنا العالي، وسنهدمُ بسواعدنا كلّ ما يمتُّ للإسلام والعروبة بِصِلَة، لِنغدو ظِلاً لخدمِ المحتلّ وأعداءِ الإنسانية والسلامِ!..

سادَ الصمتُ المكانَ، فقد كان أبلغَ من أيِّ كلامٍ!

هَدرَ صوتُ الشرفاءِ كما قالَ الشاعرُ :

لا تكذبُوا  إنا نرَى أبو اقَكُـم       ونرى قَضِيَّتَنا عليها تُشنَـقُ

إنا  نَرى الأبوابَ تُطرَقُ كُلُّها       لكنَّ بابَ شُموخِنا لايُطرَقُ

وتوالتْ أصواتُهمُ الأبيّةُ تنطلقُ من قلبِ الوطنِ، صَرخاتٍ مدويّةً بكلّ أرجائهِ:  إننا عزمنا على غربلةِ مَن انتسبوا زوراً لِشعبنا، وتلكَ الأيامُ نداولُها بين الناسِ، ولن تروا مِنا ما يُسعدُ، بل ثأراً وانتقاماً ودفعاً لِفواتيرِ الحسابِ.. فطريقُ العزّةِ كالشمسِ لنا مناراً، ولن نحيدَ عَنهُ مهما طالَ الزمانُ، فلقد تحصّنّا بإيماننا وعقيدتنا وعدالةِ قضيّتنا.. ولن نعترفَ بسقوطِ أرضٍ أو هدمِ صرحٍ، فالشعوبُ تملكُ بمشيئة الله أقدارَها، وبعزمِ الرجالِ تعودُ إلى أحضاننا الأوطانُ..

إنها كبواتٌ وصولاتٌ وجولاتٌ.. فما سقط العراق أبداً، ولكن سقطَ العالمُ إلى قاعِ الأهوالِ، فقدْ اعتدنا أن نغتسلَ بدمائنا كلما داهمتنا الخطوبُ والمحنُ والابتلااءتُ، فالتاريخُ لم يُسطّرهُ المؤرخون على عُجالةٍ، لأنَّ جِسام الأمورِ لاتؤخذ إلا بخواتيمها، ونوقنُ أنَّ بيعَ الأوطانِ لن يحملَ لأعدائنا إلا النائباتِ والخسرانِ!... فَلتوغلْ قُوى البغي والعدوان بأوهامِ النصر والفخارِ، وهو في حقيقةِ الأمر سقوطٌ إلى مهاوي الرّدى وأضغاثٌ من الأحلامِ، ستتهاوى صاغرةً أمام إرادةِ الصناديدِ من شعبنا الأغرّ وعزمهم، الذينَ يُسطَّر بدمِهِم القاني شذىً يفوحُ في كل مكانٍ..

أناجيكَ يا وطني من مَهجري وغُربتي، ويناجيكَ معي مَن حمل بين جَنباتهِ حُبّ أول الأوطان وآخرها :

انتفض... يا عراق

انهض.. وأزح عنكَ هذا الغبارَ، فما خُلِقتَ إلا أبيّاً، وعزيزاً، ومُصاناً.. تسمو فوق جراحكَ الغائرةِ، فَطهّر ثراكَ الأسمرَ الذي أدمتهُ خناجرُ الغدر المسمومةِ، وكسِّرْ سلاسل قيدكَ، وهشّم أطواقَ هوانكَ، فما عهدناكَ إلا صرحاً متماسكاً من العنفوان!

انتفض.. انتفض.. نعاهدكَ أبدَ الدهرِ أن ندورَ في فلكِ إباءكَ وعزّتكَ..

فانتفض يا عراق.

12 من أيار 2005م