ماذا تقول لنا الذكرى ..؟

ماذا تقول لنا الذكرى ..؟

محمد السيد

[email protected]

قال تعالى : "و ما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" سورة الأنبياء ( 107 )

طيبة .. وأريج الذكرى يشعل بيني و بينك نار الشوق ، فانحني لألتقط من دمي و من بين دفتي صدري خيوطاً لأنسج منها أسرار وجدي وتحليق روحي ، ثم لأركب المراكب التي بنيتِ ، متابعاً المسير ، أقتفي ضوء شمسكِ ، تُدخلين في شرايين قلبي تلك الآيات العظيمة التي أرخت سيرة أرضك ، وأطلقت تلك السيوف الشامخة ، مجتازة أرض النخيل والحرَّات ، لتهدم عروش الظلام ، وتفتح أبواب الهداية أمام المواكب المنتظرة للخلاص .. فها هي أنهار فيضك تجلب السواقي من كل الأرض ، لتصب هديرها في بحرك الزاخر ، حيث توكأت طموحات الدنا الوضاءة على كاهل الحبيب صلى الله عليه وسلم ، الذي اشرأبت القامات شوقاً لا ينقطع على المدى إلى عشق سيرة هي الندى العذري ، يهدي عطاياه للأنفس لتلتحم في عناق أبدي .. ينتج صبغة حياتية للإنسان .. ما زال منذ كان متعطشاً لنجدتها ، ولبيتٍ تبنيه بيديها يرسي كيانه فوق أساسٍ مكينٍ أمينٍ آمنٍ ..

طيبة .. و ها هي الذكرى تضيء وجهك ، ومولد صاحب الذكرى يعطر أرجاءك ، فما الذي تريدين إهداءه إلينا في غرّة الذكرى .. وأنت ترنين بعيون حزينة إلى حالنا اليوم .

تنهدت طيبة..وأخذت شهيقاً عميقاً ، عبأت منه أرجاءها،راسمةً على جبينها الأغر شهادة صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم،مكتوبةً في صفحات الكتاب ذي الصباحات المشرقة،متجددةَ الجبهات والمواجهات،مرسلةً بين دفتيه و بين القلوب الخاشعة والأزمان المتتالية..رسالةَ عشقٍ،تحمل عطر الذكرى،تاليةً الشهادة لافتاتٍ فذةً:

* تقول واحدة منها : "الله أعلم حيث يجعل رسالته" تنتج عنها : جبهة مدججة بحب لا مثيل له،يقول فيه صاحب الذكرى : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخاري.    

وتدعو إليها كلمات صاحب المولد إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ( أنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مُشَفَّع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلَقَ الجنة فيفتح الله لي فيُدْخِلنيها  ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، و أنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ) رواه الترمذي .

* وتقول ثانية منها مبينة دواعي الحب والعشق : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "

" لقد جاءكم رسول منكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم "

فهو الرحمة إذ أنقذهم من النار وهم يتزاحمون على شفيرها .. وهو الرحمة إذ دعاهم إلى حياة الاستقامة التي فيها الأمن والأمان والنظافة والتنافس الشريف .

وهو الرحمة .. إذ دعا إلى العدل الرباني بين العباد ونبذ الظلم ، لتقوم الحياة الإنسانية بالتطور الآمن الذي

تتساوى فيه الفرص للناس جميعاً ، وتنفتح أبواب المبادرات لهم بقدر واحد . يتسابقون في الخيرات والخدمات السامقة متجاوزين التزاحم الشرير الذي تبعثه النفوس الجافية لنور الله المبتعدة عن صاحب الذكرى والهدى الذي جاء به ..

* وتقول ثالثة مبينة طريقته في دعوة الناس إلى دينه وعقيدته :

" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " . 

" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .     

فهي دعوة حكيمة ، وموعظة بكلمات ندية لطيفة ، وهي حوار مستدام مع عقل وقلب الآخر ، لا إكراه فيها ولا استغلالَ لحاجةٍ ويكفي أن نستذكر في هذا المجال قول ربنا:"وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.."إذ وضع الرسول نفسه وفكره في حالة متساوية مع نفس الآخر وفكره دون تمييز ، وقال : تعالوا ونحن في هذه الحالة من التساوي في الفرص والمبادرة لنتحاور ، فنصل إلى الحق والحقيقة .. وهما القضية الأولى التي يدور حولها الحوار الجاد .

* وتقول رابعة .. منوهة بعزة صاحب المولد والذكرى وشجاعته وشكيمته .. حين تقف قوى الطغيان في طريق دعوته ، ولا تقبل العدالة في الحوار أو الحكمة في البيان ، فتلجأ تلك القوى إلى غطرسة القوة .. وطغيان الهوى..  

" أُذِن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير "

" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين "

فصاحب الذكرى من أشجع الناس في الدفاع عن دينه وفتح الطريق لدعوته ، وإزالة العقبات والمعوقات التي تعرقل سيرها ، ورد الظلم وصولة الصائلين على دياره .. فلا يقبع في داره ، ويدعو إلى سلام مع ظالم محتل متوحش مدمر ، بل هو يقف له ويقارعه ويعد ما يستطيع للمعركة ، ثم يتوكل على الله ، ويقدم غير عابئ كيف كان العدو ، وكيف كانت قوته ، و مهما كانت الفوارق في ميزان القوى بينه وبين عدوه ..  

إن الفتنة كل الفتنة واقعة في القعود تذرعاً بهذا الميزان .. فهذا القعود بهذه الحسابات يجرئ العدو أكثر فأكثر..  إن تصدي المؤمنين للظلم بعد الحشد الممكن ، والإعداد الممكن ، والترتيبات المناسبة الممكنة هو الخيار الدائم لصاحب الذكرى .. ولو استعرضنا معاركه مع الآخر .. لوجدنا أن ميزان القوة المادية كان يميل في معظم الأحوال إلى جانب العدو .. ولكنه كان يقدم فيحقق النصر بإذن الله وبعد التوكل على الله .. و اليوم وفي ظلال الذكرى فالمؤمنون مدعوّون إلى الاقتداء به واستحضار ذلك الخيار المبارك ، فنعدُّ كما كان يعد صاحب الذكرى ، ثم نتوكل على الله ، ونزج بالغالي والرخيص في المعركة الدائرة اليوم مع العدو الصائل علينا في جميع بلاد الإسلام . وها نحن نشاهد بأم أعيننا بركات هذا الخيار ، عندما انحازت إليه القلة من المؤمنين في فلسطين وفي العراق ، وكيف أنها أربكت قوى العدو ، وأبطلت خططه ، وكلفته الكثير الكثير من الخسائر وجعلته في حيرة من أمره ، وفي حالة من عدم الوزن ، لا يقع على حل أو خلاص يحفظ ماء وجهه..وهذا هو الرأي  و الله أعلم .