شرف الكلمة

د.عبد السميع الأنيس

شرف الكلمة

الدكتور عبد السميع الأنيس

كم يكون الإنسان ظالماً حينما يتصور أنه خلق عبثاً في هذا الكون المحكم!! ذلك لأن مثل هذا التصور له آثاره السلبية الخطيرة في حياة هذا الإنسان.. وهو عندما يصل إلى هذه الدرجة من التفكير، وتصل تصوراته عن الكون والحياة إلى هذه السطحية فاعلم أنه قد انحط من إنسانيته، ونزع عن نفسه ثوب الكرامة التي أكرمه الله بها.. فأصبح كالأنعام أو أضل سبيلاً..

والله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً من مخلوقاته إلا لحكمة يريدها، وقد أخضع هذا الكون كله لقانون لا يختلف، وجعله منوطاً بأسباب، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، ومظاهر هذا الإتقان البديع، واضحة للعيان، ويمكن أن يلحظها المرء في كل شيء مخلوق صغر أم كبر..

وإذا كان الإنسان – وهو أحد هذه المخلوقات – خاضعاً بالضرورة لنواميس الكون، وقوانينه من حيث خلقه ووجوده، فليخضع مختاراً لمنهج الله وشريعته في عقيدته وفكره وسلوكه حتى يتم التوافق بينه وبين هذا الكون..

ولهذا كان الإنسان مسؤولاً عن أعماله جميعاً، مسؤولاً عن كل علاقاته سواء كانت هذه العلاقة مع خالقه الذي أوجده، أو مع نفسه التي بين جنبيه، أو مع الناس الذين يعيش معهم..

وقد تتداخل هذه العلاقات الثلاث مع بعضها، فتظهر آثارها واضحة على قدر تداخلها، وعندها لا بد لنا من الرجوع إلى مؤشر له أهميته في بيان هذه العلاقات، وإظهار القصور الذي يحدث بسبب التخلي عن المسؤولية تجاهها..

هذا المؤشر هو الكلمة، فهي بحق كاشفة عن هذا القصور بصورة لا غموض فيها، ومعبرة عنه أحسن التعبير..

والكلمة: كائن حي عند الإنسان الواعي، الذي فقه وجوده في هذه الحياة، وفهم أبعاد علاقته مع خالقه ونفسه ومجتمعه.. ذلك لأنها تحدد كثيراً من مواقفه، وتعرفه بمسؤوليته تمام التعريف..

ولذلك فقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة اهتماماً بالغاً، فهو لا يفتأ يذكر الأمة بآثارها، وينبه العقول إلى أبعادها قال عليه الصلاة والسلام:

"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات.

وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها إلى جهنم"(1).

وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، فقال لها: لقد قلت كلمة لو مُزِجتْ بماء البحر لمزجته..

أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها..

إن في هذا ترهيباً شديداً لكل من تسوّل له نفسه فيلقي بالكلمة - وهي مخالفة لمنهج الله – غير عابئ بها، ولا متفكر بمسؤوليته أمامها.. لو أنه ألقى لها بالاً، وحسب لها حساباً، فلم ينطقها إلا بعد تفكير عميق لما تحدد من مواقف، وتكشف عن مسؤوليات لتجنبها أشد الاجتناب..

وهكذا كان مفهوم الكلمة عند سلفنا الصالح، كان واضحاً في أذهانهم بقدر غموضه في أذهاننا، وكان ظاهراً في أنفسهم، ومواقفهم ومجتمعاتهم بقدر غيابه عن أنفسنا ومواقفنا، ومجتمعاتنا..

فهذا الإمام أحمد بن حنبل قد حسب للكلمة حسابها، وعرف مسؤوليتها وأبعادها، فظهرت آثارها في مواقفه عندما أبى القول بخلق القرآن لما دعي إليه لقد أدرك الإمام أحمد قيمة الكلمة فوقف موقف الحق أمام هذا السيل الجارف، وأدلى بكلمته غير هياب ولا وجل، ولو أنه لم يفعل لتغير مجرى التاريخ!!..

ولماذا نذهب بعيداً: ألم نعلم أن كلمة واحدة تنقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان،

وكلمة واحدة تثبت في حق امرئ تجعله صادقاً أو كاذباً..

وكلمة واحدة تفصل بين كونه مجرماً أو بريئاً..

وكلمة واحدة يؤتمن عليها فيفشيها فيكون خائناً.

وكلمة في موعد ألزم نفسه به فتخلف بغير عذر فيصبح منافقاً..

ألم تعلم أن كلمة واحدة يسر بها مسلماً فيحسب من المتصدقين،

قال عليه الصلاة والسلام: "الكلمة الطيبة صدقة"(2)

وكلمة يذكر بها الله فيكون من الذاكرين.

وكلمة واحدة يستغفر الله بها فيغدو من التوابين..

وحسبك أن الكلمة موقف يحسب لك أو عليك.

ومسؤولية تظهر آثارها عليك عاجلاً أم آجلاً..

والكلمة: إنما تحسب لك موقفاً إذا قيلت في وقتها المناسب عند الحاجة إليها، وإلا قيل لك: كلا إنها كلمة هو قائلها.. في جواب من قال: "رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت" وعندها لا ينفع الندم..

أيها الإنسان:

إن الكلمة – هذه التي تتفوه بها بأسرع من لمح البصر غالية جداً لا تكاد تعادلها كنور الأرض مجتمعة..

فإياك إياك أن تجرفك الأهواء، وتلعب بك النزعات فترخص عندك ما أغلاه الله، فمن رخصت كلمته قلّت قيمته، وذهبت شخصيته، وانحدر في دركات الخسران..

ومن غلت كلمته عظمت قيمته، وارتفع شأنه عند الله وعند الناس..

وغير بعيد عنك أن الموقفين متضادان، وأن كلاً منهما مضرب لمثل،

وما أظنك إلا سامعاً أو عالماً أن فلاناً ينطبق عليه قول الشاعر:

كل يوم تتلوّن  غير هذا بك أحسن

فما ترى الناس إلا ذامة له، منصرفة عنه.

وأن فلاناً آثر الشظف والكلفة لقاء كلمة حالت دونه، ودون متاع الحياة الدنيا وزخرفها، ولو شاء الله لفعل، ولكن أليست الكلمة هي الحياة، وأليست الحياة الدنيا دليل الحياة الأخرى..

             

(1) رواه البخاري عن أبي هريرة

(2) رواه مسلم عن أبي هريرة