في نقد الذات : الوعاظ والخطباء
05آذار2005
صالح البوريني
في نقد الذات :
الوعاظ والخطباء
قياديون لا يقرؤون
صالح أحمد البوريني
عضو رابطة الأدب الإسلامي
إن جماهيـر الأمة المسلمة اليوم تتطلع إلى خطاب إسلامي أصيل وعصري ، يقبـس من مشكاة الوحي ، ويتابع خطوات الحياة ، ويسلط أشعة الشريعة الغراء على قضايا العصر ومستجدات الأحداث ومتغيرات الواقع التي يقف المسلم إزاءها في حيرة بين القبول والرد . ويعالج كل هذه القضايا بروح من وسطية الإسلام وشموليته ، وتميز منهجه في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتفرد قواعده الأصوليه وأحكامه الفقهية في القدرة على وصف واستنباط الحلول لمشاكل الحياة البشرية كلها .
ولا شك أن هذا الخطاب لا يتأتى إلا لمن تعاهد نفسه بالتثقيف المستمر ، واعتنى بالقراءة والمتابعة والاطلاع .
ضرورة القراءة :
إذا كانت القراءة علامة على وعي الإنسان ، وشاهدا على ارتقاء المجتمعات وتقدم الأمم ، فإنها ـ لا شك ـ ضرورة لازمة لنخبة خاصة من الناس ، وواجب أدبي وشرعي عليهم ، أولئك هم صانعو الوعي وموجهو الرأي في المجتمع .
وثمة طائفة من هؤلاء تحتل موقعا رئيسا على الحدود بين واقع توعية الجماهير ومستقبل هذه التوعية ، ألا وإنهم الخطباء والوعاظ ، سواء منهم من كان يعمل تحت المظلة الرسمية للدولة ومن كان عمله تطوعيا مستقلا .
ذلك أن طبيعة الواجب وقداسة المهمة التي يضطلع بها من تصدى للوعظ وانبرى للخطابة ؛ تفرض عليه أن يكون بصير القلب منفتح اللب . فصاحب القلب المبصر والعقل المستبصر أقدر على تشخيص العلة ومعرفة دوائها واتخاذ أفضل الوسائل لعلاجها .
ثقافة الواعظ والخطيب :
وإزاء ما تعانيه الأمة من جهل بالإسلام وبعد عن تمثل روحه وفهم رسالته وتخلف عن الالتزام بمنهجه الشرعي والأخلاقي في الحياة ، إضافة إلى حجم التحديات القائمة في وجهه ، وشراسة الحرب المعلنة عليه ؛ إزاء ذلك كله ، فإن ثقل الواجب الملقى على عاتق الدعاة إليه ، ومنهم العاملون في الخطابة والوعظ في المساجد ، يزداد ويكبر ليوازي حجم تلك التحديات الجسيمة والحرب اللئيمة ، مما يستدعي أن لا تنحصر ثقافة الداعية المسلم في حدود التحصيل الأكاديمي للعلم الشرعي فحسب . وإنما تتجاوزه إلى حفظ القرآن الكريم وما أمكن من الحديث النبوي الشريف ، وإتقان اللغة العربية ، والإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من علوم زمانه ، ليكون ذلك كله مكملا لثقافته الشرعية ، ومعينا على استكمال متطلبات القيام بواجب الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم .
وكما أن التحصيل الشرعي كان بالقراءة ، فإن إتمام دور هذا التحصيل ، وإكمال دائرته حتى يشرق نوره على كل ما حوله لن يكون إلا بنشاط واجتهاد ووسائل تشكل القراءة واحدة من أعظم قواعدها وأمكن أسسها .
فلن يملك الواعظ والخطيب أن يكون معالجا للواقع المريض إلا بمعرفة أمراضه وكشف أسبابها ووصف أدويتها ، ولن يكون مصلحا في الناس ولا مؤثرا في نفوسهم ولا مغيرا في سلوكهم إلا بالعلم والحكمة والوعي ؛ تلك التي تجتمع في إطار ثقافة خاصة لا يكتمل تحصيلها بغير القراءة الواعية المستمرة .
وهذه الثقافة ؛ ستكون سلاحه الذي يواجه به جهل الناس بقيم الإسلام وأحكامه ، وانشغالهم المفرط بشؤون دنياهم عن أمور دينهم ، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساسا لإصلاح الواقع وبناء المستقبل . وستكون هذه الثقافة عونـا له على حسن النظر في سطور كتاب الواقع الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة ، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات ، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان التوعية والتذكير . وإن غياب هذه الثقافة سيجعل الواعظ والخطيب معزولا عن الواقع ، يحلق وحيدا في أجواء خالية ، ويدور في حلقة مغلقة ، بعيدا عن إدراك حاجة المجتمع ، وتحديد مستلزمات الإصلاح ، وتحقيق رسالة الوعظ ، والقيام بواجب التوعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
جفوة القراءة والفقر الثقافي :
وإنه لمما يثير الأسف أن فئة من الخطباء والوعاظ يكتفون بما حصلوا من علم شرعي ، ولا يحاولون استكمال بعض النقص الظاهر في كفايتهم العلمية وأدائهم العملي ، ويقفون من العلم عند حدهم ولا يتجاوزونه إلى الاستزادة من العلوم الأخرى والثقافة العامة ، بل ربما قصروا في مذاكرة ما حصلوا من العلم الشرعي نفسه ، فانعكس ذلك على خطابهم ووعظهم ؛ ضعفا ظاهرا عند بعضهم في اللغة إلى حد يزري بصاحبه ، ونقصا ملحوظا لدى آخرين في إتقان أساليب التوصيل والعرض والإقناع ، واضطرابا لدى بعض منهم في تناول قضايا عصرية معينة ، مما يشي بضحالة فكرية وفقر ثقافي ، وتقصير في واجب الإعداد العلمي لخطبته والتحضير المنهجي لدرسه وموعظته . ونتج عن ذلك أن انعكس فقر خطابهم الوعظي وضعفه على مستمعيـهم ومصلي مساجدهم ، فمن جمهورهم من استسلم للأمر الواقع على مضض ، ورضي بأن يكون مع الأغلبية الصامتة ، ومنهم من رفع عقيرته بالاحتجاج ، وعبر عن امتعاضه بالشكوى المسموعة ، ومنهم من شد الرحال إلى مساجد أخرى يبحث عن خطاب أكثر تأثيرا وإقناعا .
ولذلك فإن على الواعظ والخطيب أن يصحب الكتاب ، وأن لا يجفو القراءة ، وعليه أن يستزيد من العلم ، ويزاول الاطلاع على المصادر الثقافية العصرية ولا سيما المجلات والدوريات التي تعتبر من أهم روافد الوعي بالحاضر ونوافذ الاطلاع على واقع الحياة .
شهادة إنصاف :
ومما يقتضيه الإنصاف أن نشهد بأن نفراً قليلا من الخطباء والوعاظ ، سمت بهم همتهم ووطنوا أنفسهم على القراءة والبحث والاستزادة من العلم ؛ ليؤدوا واجبهم على أكمل وجه ، فسدوا ثغرتهم وأحسنوا أداءهم ، وارتقى خطابهم إلى درجة التأثير وإحداث التغيير في نفوس الكثيرين من الناس ، فتزايد جمهورهم وكثر محبوهم . وقد استحق هؤلاء المتميزون من الخطباء والوعاظ أن تسجل خطبهم ومواعظهم على الأشرطة يتداولها الناس ، وأن تـنـشر دروسهم ومواعظهم في كتب مستقلة .
وليس كل هؤلاء من ذوي التخصصات الشرعية ، وليسوا جميعا من حملة الشهادات العليا ، فثمة مهندسون ومعلمون في المدارس وحملة شهادات شرعية دون درجة الماجستير والدكتوراة تهتز لخطابهم النفوس ، وتخشع لموعظتهم القلوب ، وتتفتح العقول لدروسهم ، ويشتاق الناس لمجالسهم ومحاضراتهم .
وفرة مصادر المعرفة :
إن تحصيل الثقافة المناسبة لدور الواعظ والخطيب لا يقتصر على المعلومات الشرعية المجردة ، بل يمتد إلى مساحة تتسع للإلمام بقدر من علوم اللغة والتربية والنفس والاجتماع والتاريخ والتراجم والسير والملل وما تيسر من العلوم الأخرى . ومما لا ريب فيه أن ذلك متعذر من غير مداومة القراءة ومواصلة الاطلاع ، والبقاء على تواصل دائم مع مصادر المعرفة التي باتت في أيامنا سهلة قريبة من الجميع .
فأكثر المساجد اليوم فيها مكتبات توفر قاعدة مرجعية للخطيب والواعظ ، والمكتبات العامة توفر من المراجع الموسوعية والكتب والمجلات والصحف ما يقضي حاجة القارئ والباحث . ولا ننسى الإشارة إلى أهمية الإفادة من منجزات الثورة المعلوماتية المعاصرة ، وما تفتحه من أبواب الاطلاع على أنواع العلوم وألوان الثقافة المنشورة فـي مئات وآلاف المواقع على شبكـة المعلومات العالمية ( الانترنت ) ، وما توفره الأقراص المدمجة التي تختزن المعلومات ، وتستوعب الموسوعات العلميـة الكثيرة وتضعها فـي لحظات قليلة بين يدي القارئ.
ويبقى المتصدي لواجب الخطابة والوعظ في حاجة ماسة إلى التزود من مصادر العلم والمعرفة ؛ ليغذي خطبته وموعظته ، ويثريها بالشواهد والنصوص والاقتباسات المناسبة، وليستطيع مواكبة المتغيرات والمستجدات ، وليكون حاضرا بخطاب أصيل متميز قادر على الاستجابة لمطالب الواقع .
القراءة تجـددٌ وتجديـد :
وهذا نداء خاص أتوجه به في نهاية هذا المقال إلى السادة الخطباء والوعاظ ، وهمسة في آذان هذه الصفوة القيادية التي تسـنـمـت موقعا رياديا مرموقا ؛ إذ ارتقت منابر المساجد ، وتبوأت بإرشادها ومواعظها مقاما قياديا متقدما في حياة المجتمع . أقول : اقرؤوا يا سادتي ؛ فإن الأمة تنتظر قطوف قراءتكم ، اقرؤوا بالعين والعقـل والقلب ، فالقراءة طاقة معرفية تحرك العقل وتمد مساحة الوعي الفكري بزاد متجدد . وهي نمو يمضي بالإنسان نحو النضج العقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي . إن القراءة حركة إلى الأمام ؛ ندرك بها مسيرة الحياة ، ونطلع بها على متغيرات العصر ، اقرؤوا لأن القراءة تنوير للذهن ، وإضاءة لأجواء النفس ، تعين على كشف خفاياها ومعرفة مزاياها وإدراك عيوبها ، ولأن القراءة فتح لمغاليق البصيرة ، وسبر لأغوار الطريق ، واستكشاف لآفاق المجهول، اقرؤوا لأن القراءة قوة للعقل وزاد للروح وإرواء للقلب ، ولأنها عبادة لله تعالى وقربة نؤجر عليها إذا صدقت النية وصح القصد ، إذ هي استجابة لأول أمر إلـهي نزل في القرآن الكريم ( إقرا باسم ربك الذي خلق ) العلق : 1 . اقرؤوا فالقراءة استزادة من العلم ( وقل رب زدني علما ) طه : 114 ، وهي تمرين فكري يسمو بإنسانيتـنا إلى مستـوى الفهـم عـن الله تعالى . القراءة تصفية لعدسة التأمل ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) آل عمران : 191 ، وتجلية لعين الكشف ( قل سيروا في الأرض فانظروا ..) العنكبوت : 20، وتقوية لملكة الاستنباط و توسيـع لدائـرة الرؤية ، وتنمية لملكات التصوير والتحليل والمقارنة . اقرؤوا يا سادتي لتتجددوا ، ولتجددوا غيركم ، ولتتغيروا وتغيروا في الناس : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد : 11.