نقول أم نعمل؟
نقول أم نعمل؟
بقلم: نبيلة الخطيب
يقولون تكلم قليلا واعمل كثيراً, فهي دعوة عامة إلى الإقلال من الكلام والتكثير من العمل, وهذا يعني في مضمونه أن حظ الكلام أقل من حظ العمل, لذا يحسن الوقوف على هذه العبارة وتحليلها لنتبين مدلولها ومطابقتها لواقع الكلمة والعمل, ويبدو أنها قيلت في واقع معين غلب فيه الكلام وكثر, وتراجع فيه العمل وقل, فالبضاعة كانت كلاماً زائداً عن الحاجة وعملاً دون الحاجة, ولكثرة الكلام في التصور محاذير ومخاطر لما ينتج من كثرة الخطأ, فقالوا: من كثر كلامه كثر خطؤه..
والحقيقة أن الخوف من كثرة الكلام له ما يبرره, فالله تعالى يقول في وصف المؤمنين المفلحين:" والذين هم عن اللغو معرضون"(1), واللغو هو كل كلام أو فعل لا فائدة منه ولا خير فيه, وفي موعظة موجهة لمعاذ بن جبل" أمسك عليك لسانك" فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال عليه السلام: " وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصاد ألسنتهم", ونعلم أن للسان آفات كثيرة تورد صاحبها موارد الهلكة مثل الغيبة والنميمة وكثرة الحلف واللعن والهمز واللمز وقذف المحصنات...
", ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه", والكلمة كالرصاصة إذا انطلقت لا تعود وقد تصيب مقتل. وكلنا يعرف:جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان
في الحقيقة إن الكلام يدخل في العمل وهو جزء منه, أما الفارق فهو ما بين الكلام والفعل وليس العمل, ولكن الناس تعارفوا على أن الكلام هو القول باللسان والعمل هو فعل الجوارح.
يقول الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"(2) ففرق سبحانه بين القول والفعل على اعتبار أن القول هو الكلام النظري أو ما نسميه اليوم "التنظير" والفعل هو التطبيق لهذا التنظير.
يقول تعالى:" ووجدوا ما عملوا حاضرا"(3) ويشمل كل ما عمل الإنسان من قول أو فعل, ويقول جل ثناؤه:" هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه" و "يا أبت افعل ما تؤمر"..(4)
وكما بينا خطورة الكلام وما دعا الناس للتحوط منه فإن العمل كذلك لا يخلو من هذا التحفظ, ففي الحديث الشريف:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى", فالخوف من الرياء وحب الظهور يضع كوابح لكثير من العمل, وقد سئل النبي الكريم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله, فقال:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
ويقول سبحانه:" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا"(5) و " مثل الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا"(6) و " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"(7), إذن الخوف من العمل لا يقل عن الخوف من الكلام.
وقد ذُكر الفعل ومشتقاته في الكتاب العزيز 108مرات والعمل ومشتقاته 355 مرة, بينما تكرر القول بمشتقاته 1719 مرة, وللأرقام دلالاتها الناطقة, فما معنى أن ذكر القول أضعاف العمل والفعل؟
في تصوري أن القول والكلام هو الأساس الذي يقوم عليه العمل" الفعل" , وأن الفعل هو التطبيق في الواقع لما يستقر عليه الرأي والنظر, وأن التطبيق العملي لا يأخذ مجراه ولا يُبدأ به إلا بعد أخذ ورد ومشورة وجدال وحوار ثم قناعة فعمل وتطبيق.
من هنا فإن أول ما بدأ به الوحي " اقرأ", وأول ما بدأ به النبي دعوته " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" حسب التوجيه الإلهي, "قم فأنذر" (8)"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا..."(9) والنصوص الكريمة في ذلك كثيرة جداً..
فإذا صح التصور والأساس صح ما يبنى عليه والعكس صحيح, فلو أخذنا الشيوعية مثالاً, والأمثلة في عالم اليوم كثيرة, فإن النظرية الشيوعية ما لبثت في الواقع العملي أن انهارت ولم تصمد بل ماتت حتى قبل أن تطبق بشكل كامل, مع توفر الأسباب المادية لذلك, بينما الإسلام طبق في الواقع الأرضي كاملاً ولا يزال قابلاً للتطبيق وذلك لصلاح وقوة وسلامة الأساس الذي انبثق منه.
لا أفاضل بين الكلام والعمل ولكنني أقصد أن المسألة ليست في كثرة الكلام أو قلته ولا في كثرة العمل أو قلته, بل قد نحتاج إلى كثير هذا أو ذاك أو قليله حسب الواقع والظرف زماناً ومكانا, والمصلحة هي التي تحكم, فهذا الإمام علي رضي الله عنه يقول " لو قلت للناس أكثر مما يطيقون أوقعتهم في الفتنة", والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لعائشة " لولا أن أهل قريبو عهد بالجاهلية لفعلت... كذا وكذا.." فالنبي عليه السلام امتنع عن فعل معين لظرف معين, وتقول السيدة عائشة:" لو أن أول ما نزل أن دعوا الخمر لقالوا لا ندعه أبدا".
والأمر الأهم الذي يجب أن يضبط القضية هو النفع والضر, فحيثما كانت المنفعة فثم الخير, وحيثما كان الضرر فثم الإحجام, وهذا الضابط تقرره النصوص نفسها, فالحديث الشريف يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت", والآية الكريمة:" من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى", إنه إذن الخير والصلاح, وهذا أيضاً منضبط بأمرين: الأول الموافقة للشرع, والثاني التجرد لله رب العالمين, يقول تعالى" لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إحسان بين الناس", فكم من عمل لا يخرج منه صاحبه إلا بالتعب والنصب, فرُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش, يقول تعالى" عاملة ناصبة" ولكن "تصلى ناراً حامية".
فرب كلمة صغيرة تحمي صاحبها والأمة, ورب عمل قليل يصون المجتمع ويحفظه, " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون", وإن الرجل ليدخل الجنة بغصن شجرة يبعده عن الطريق حتى لا يؤذي الناس, يقول عليه السلام: " لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق", وعندما قدمت السيدة عائشة –رضي الله عنها- إلى سائلة نصف تمرة كانت بيدها, قيل لها: نصف تمرة؟! فقالت: كم من ذرّة فيها؟ مستفيدة من قوله تعالى" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره", وبالتالي نحن لا ندعو إلى الإقلال من الكلام بل ندعو إلى قول ما يفيد وينفع, ولا ندعو إلى الإكثار من العمل بل ندعو إلى عمل ما يفيد وينفع.