فَذلكاتٌ انتفاضيّة (9)
فَذلكاتٌ انتفاضيّة (9)
(من وحي انتفاضة الأقصى المبارك ، التي تدخل عامها الخامس)
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
(20)
للذكرى وحسب : وعند (ديربان) المهزلة اليقين !..
أصغر طفلٍ فلسطينيٍ ، من أولئك الذين منعتهم قوات الاحتلال الصهيوني عن متابعة دراستهم ، بعد إغلاق مدارسهم ، أو من أولئك الذين يحمل كل منهم مِقلاعه وأحجاره ، من رفاق الشهيد الطفل (محمد رامي الدرّة) .. متيقّن من عنصرية الصهيونية !.. فهؤلاء الأطفال كلهم يعيشون في ظلّ العنصرية الصهيونية البغيضة في الميدان .. في الشارع والمدرسة ، والقرية والمدينة ، وفي مزارع الزيتون ، وعند عجلات الجرّافات التي تجرّف أراضيهم الزراعية ، وتهدّم بيوتهم التي تؤويهم !..
أصغر طفلٍ عربيٍ مسلمٍ ، من مثل الطفل العربيّ المصريّ المسلم (أحمد شعراوي) ، الذي ضُبِطَ عند الحدود المصرية-الفلسطينية وبين جَنْبَيْهِ حجر ، متوجّهاً إلى فلسطين لنصرة أطفالها ، الذين تُفقَأ عيونهم ، وتُكسَّر عظامهم ، من قبل اليهود الصهاينة .. يعرف أنّ الصهيونية والعنصرية أمران متلازمان ، لا يمكن أن ينفكّ أحدهما عن الآخر !..
كذلك كلهم يعرفون .. ومتأكّدون - أي : أميركة والأنظمة العربية و(كوفي أنان) - ، ويعلمون علم اليقين أنّ الصهيونية أعتى أشكال العنصرية !.. لكنهم ظالمون ، ومزوِّرون ، يحاولون حجب الشمس بغربال !..
يوماً بعد آخر ، تتأكّد الشعوب العربية والإسلامية ، من (نزاهة) الراعي (النـزيه) لعملية السلام الحربيّ !.. ومن نخوة الأنظمة العربية ، وجدّيتها ، وشدّة تفاعلها مع الانتفاضة الفلسطينية المباركة !.. ومن صِدق حياديّة المدعو : (كوفي أنان) ، الأمين العام (الفخري) للصهيونية العنصرية !..
بالأمس البعيد (في عام 1991م) ، وبعد أن أنهت الأنظمة العربية ، مع أميركة وأوروبة الصليبية .. انتصارها المؤزّر على شعب العراق العربيّ (العنصريّ) !.. في ذلك الأمس ، (بَصَمَت) تلك الأنظمة كلّها ، على قرارٍ يلغي قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية !.. وبالأمس القريب ، شاهدنا تلك الأنظمة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة ، شاهدناهم في (أسواق عكاظٍ) عدّة ، أشدّ فلسطينيةً من الفلسطينيين أنفسهم !.. في مؤتمرات القاهرة وعمّان والدوحة و.. كانوا يتنافسون في إبراز عضلاتهم ، وفصاحة خطاباتهم ، وضجيجهم الذي غطّى ، حتى على صهيل خيول الانتفاضة ، وصليل سيوفها ، التي كانت حاضرةً في باحة الأقصى المبارك ، وهي الساحة الحقيقية لاسترداد الأرض والعزّة والكرامة !..
في (ديربان) ، شاهدنا على الهواء مباشرةً ، صورةً مصدَّقَةً لتحالف الأنظمة العربية (الشجاعة) ، مع الراعي (النـزيه) ، وربيبته الصهيونية العنصرية ، لكن بِحُلَّةٍ جديدة ، وهندامٍ آخر !.. وإذا كان اكتشاف الأنظمة العربية الذي تمّ مؤخراً ، بأنّ الصهيونية ليست عنصرية !.. فماذا يضير المدعو (كوفي أنان) ، الأمين العام للأمم المتحدة .. علينا ، أن يكون سبّاقاً لهذا الاكتشاف العظيم ؟!..
في (ديربان) ، كانت الأنظمة العربية (الحكيمة) .. مهذّبةً ، رصينةً ، وَقُورةً .. وصامتةً صمت الأصنام!.. لا تعجبوا !.. فللرصانة مكانها ، وللتهذيب والوقار ، والصمت أيضاً .. مكانه !.. فالأنظمة التي نشاهدها في المؤتمرات العربية ، الطارئة منها والعاديّة ، تملأ الدنيا ، وتَشغل الناس ، بخطب البطولة والكرامة والذَّوْد عن المقدّسات !.. وترفع عقيرتها بالصراخ وبيانات التنديد والاستنكار .. والاستغاثة ، وهتافات الدعم المزيّف غير المحدود لفلسطين ، وللانتفاضة الفلسطينية !.. الأنظمة التي أصدرت أسطواناتٍ فنّيةً ، لأعلى الأصوات الغنائية (الحربية) ، والموسيقى التصويرية الصاخبة الوطنية ، وأنتجت أفضل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والمسرحيات الاستعراضية .. دعماً مزعوماً للانتفاضة ، ولطفل فلسطين !.. الأنظمة هذه ، هي نفسها التي كانت في (ديربان) مضرب المثل ، في التهذيب والحصافة والصمت المطبق !.. وهي نفسها التي تملأ ساحات الأوطان العربية وشوارعها ، بالمدرّعات والمصفّحات والأسلحة الأوتوماتيكية وراجمات الصواريخ و.. عندما تتنفّس تلك الساحات والشوارع ، أو تحملها النخوة على المطالبة بنصرةٍ حقيقيةٍ فعليةٍ لفلسطين العربية ، ولشعبها الجريح ، ولانتفاضتها المباركة .
ما يلفت في (ديربان) ، أنّ المحاربين التلفزيونيين والإذاعيين ، ومناضلي المؤتمرات بمختلف أشكالها وأحجامها ومقاساتها ، من أبطال الصمود .. والتصدّي للمواطن المغلوب على أمره .. كانوا هناك أيضاً ، ولم يكونوا صامتين أو مهذّبين !.. فأولئك لهم في (كلّ عرسٍ قُرص) ، حيث لم يبخلوا على أهل المؤتمر ، وعلى العالم كله ، بالفائدة الجمّة ، والعلم المحض !.. فقد قدّموا محاضراتهم ، ونظرياتهم ، وتنظيراتهم .. بلسانٍ عربيٍ فصيحٍ ، وحَنجرةٍ ذهبيةٍ لا تعرف الصمت أو الهدوء !.. قدّموا للعالم رؤيتهم -الفذّة- للظلم ، وللاضطهاد ، وللعنصرية، وللعبودية ، ولإذلال الإنسان وامتهان كرامته وإنسانيته ، وانتهاك حقوقه الأساسية !.. ففي كلّ بلدان العالم اضطهاد ، وظلم .. إلا في بلادهم ، بلاد الصمود والتصدّي ، والمقابر الجماعية ، والمحاكم العسكرية الميدانية ، والإعدام على الكلمة ، والاختفاء بسبب شكل قَسَمات الوجه أو طريقة تحرّك الوجنات أو مُقَلِ العيون!.. وفي كل العالم عنصرية .. إلا في بلادهم التي تنعم بالطائفية البغيضة ، وتَسَلُّط الأقليّة الطائفية ، على الأكثريّة الكاثرة المسلمة من أبناء شعبهم !.. وفي كلّ الأوطان قهر وإذلال وتعذيب واستبداد ينبغي القضاء عليه.. إلا في وطنهم ، الذي ينعم بالاستقرار ، وقوانين الطوارئ ، والأحكام العُرفية ، والسجون الصحراوية ، والقتل على الهوية ، ومنع كلّ أشكال الحرية ، ربما بما فيها حرية دخول الحمّامات وبيوت الخلاء والخروج منها !.. وفي كلّ بلدان الأرض ديكتاتورية وأنظمة متخلّفة .. إلا في بلدهم .. بلد الحزب القائد ، حيث الحزب هو الوطن.. وبلد الزعيم الواحد الأوحد ، الذي ينتخبه الشعب بملء إرادته وكامل حرّيته ، بنسبة (99.99%).. وبلد الجمهورية الوراثية ، والقائد الجمهوريّ إلى الأبد ، الذي يدخل قصر الرئاسة على ظهر دبّابة ، ولا يخرج منه إلا على عربة مِدفع !.. وفي كلّ دول الأرض تقصير ، واضطهاد، واعتداء على حُرُمات الدول الأخرى .. إلا في بلدهم ، الذي تزخر سجونه بالعرب الأردنيين والفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين والجزائريين و.. ، إلى جانب أشقّائهم السوريين !.. وفي كلّ المشارق والمغارب احتلال ، وأرض محتلّة ، وانتهاك لحقوق الإنسان .. إلا في بلدهم ، الذي يرفل بالسعادة والتحرير والعدل .. فلا لاجئون ، ولا وافدون ولا مضطَهَدون ، ولا مهجَّرون قسريّون أو مَنْفِيّون ، ولا أرض محتلة ، ولا جَوْلان يئنّ !.. وفي كلّ بلاد الدنيا تدخّل في شؤون الآخرين .. إلا في بلد الصمود والتصدّي .. فلا تدخّل ، إلا في شؤون لبنان الشقيق التوأم ، وفلسطين الجريحة حبيبة القلب ، والعراق الشقيق الجريح الذي لا يمكن الاستغناء عنه ، أليس هؤلاء كلّهم أشقّاء لنا ؟!..
في (ديربان) .. (طَقَّ عِرْقُ الحَياء) !.. ولم يخجلوا .. إلا ساعة التصويت على مشروع قرارٍ يساوي الصهيونية بالعنصرية !.. ما مكّن أميركة وإسرائيل ، من إلغاء مشروع ذلك القرار !..
اللافت في (ديربان) أيضاً ، هذا الزخم من التفاعل الجماهيريّ الرائع ، للجموع البشرية المتدفّقة في الشوارع والساحات ، خارج أروقة المؤتمر ، التي كانت تهتف لفلسطين ، وتحرق الأعلام الصهيونية !.. وقد كانت الهتافات بشتى اللغات ، بما فيها اللغة العربية الحقيقية غير المزيّفة ، التي يستخدمها المواطن العربي المسلم المتفاعل مع الانتفاضة الفلسطينية !.. وكانت الأمور هناك تسير بشكلٍ حُرٍّ نزيهٍ ، وعفويةٍ رائعة ، من غير رقيبٍ أو حسيبٍ أو خفافيش !.. إلى درجة أنّ المواطن العربيّ في كلّ أنحاء الوطن العربيّ ، الذي شاهد ذلك المشهد العظيم عبر الأثير .. تمنّى لو كان قادراً على التوجّه إلى أقصى الأرض .. إلى (ديربان) الحرّة الأبيّة ، ليتمكّن من التظاهر بحريّةٍ ، دعماً وتأييداً ومساندةً لانتفاضة الأقصى المباركة !..
يتبع إن شاء الله