دعوها
دعوها
صالح البوريني
التوحيد هو الأساس الأول للتغيير ، والتوحيد من حيث هو عقيدة يقتضي أن يكون مركزا ينجذب إليه الموحدون، يجتمعون عليه ، ويتوحدون عليه ، هو الأساس والمنطلـق والمرجـع . ولا يمكن أن يتحقق ذلك مع وجود أي شكل من أشكـال الفرقة والانقسام ، وعليه فإن الخروج من دوامة الفرقة والخصام والتخلـص من عوامل الشرذمة والانقسام والتوجه نحو سبل التوافـق وعناصر التآلف شرط من أهم شروط وجود الأمة الموحدة والمجتمع الإسلامي الموحد .
إن التنازع والفرقة بكل أشكالها وأسمائها عوائق قائمة في طريق تحقيق الوحدة ، ولا يمكن مع وجود أسباب الخصام والفرقة بين المسلمين أن يكون هناك اجتماع على العقيدة ، ذلك أن الفرقة والخصومة بين المؤمنين تقطع الطريق على العقيدة ، وتحول بينها وبين تحقيق إنجازاتها الباهرة . تلك الإنجازات التي تحققت في مراحل متعددة من تاريخ أمتـنا الطويل ، كان أعظمها في مرحلة البعثة النبوية الشريفة ودولة الخلفاء الراشدين . إذ استطاع محور العقيدة أن ينسج من الأعراق المتباينة والأجناس المختلفة ثوبا اجتماعيا متماسكا ويؤلف من الطبقات التي كانت متصارعة في الجاهلية مجتمعا متآلفا متراحما ، مع المحافظة على أشكال الوجود الاجتماعي من الأسرة حتى القبيلة أعمدة تقيم بناء الأمة إلى جانب العمود الأول والأوسط والأعلى وهو عمود العقيدة .
ففي إطار الوحدة على العقيدة يأخذ الولاء الاعتقادي مكانه الأعلى وموقعه المتقدم بين الولاءات الأخرى ، وهو لا يسقطها ولكنه يوجهها فتكون تبعا له ، ولا تـتـقدم عليه في حال أبدا . فالولاء للعشيرة ـ على سبيل المثال ـ في ظل وحدة العقيدة موجود ليؤدي وظيفة اجتماعية تلاحمية تراحمية تخدم الولاء العام والأعلى ولا تخرج عليه.
قـال تعالى في سورة الحجرات:
(.. وجعلناكم شعبوا وقبائل لتعارفوا ..)
وفي سورة الأحزاب:
( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .. )
وفي سورة النساء :
( وبالوالدين إحسانا وبذي القربي واليتامى والمساكين ) .
ولكن الالتفاف حول هذه الولاءات وحول سواها من المصالح الطبقية والمادية حين ينسلخ بها عن الولاء الأول والأعلى وهو الولاء للعقيدة فإنه يؤدي إلى التـنازع والاختصام وانفصام عرى الوحدة الاجتماعية الذي يمزق الكيان ويهدم البنيان .
وتلك هي نقطة الضعف التي فطن إليها أعداء الأمة منذ كانت وحدتها في المدينة المنورة شبحا مرعبا للكافرين والمشركين ، ومنذ أن امتلأت قلوب اليهود حسدا وكرها لوحدة المؤمنين فنفث فيها اليهـودي الحاقد ( شاس ) نفثـته المسمومة حين دفع جارية إلى التغني بما كان بين الأوس والخزرج من حروب دامية ولا سيما يوم بعاث فتحول لقاء الإخوة إلى شجار تداعى فيه الأنصار إلى السلاح لولا أن قيض الله لهم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فأخمد الفتـنة في مهدها وفوت على حقد اليهود فرصة تفريق صف المؤمنين بقولته الشريفة التي ما تزال مصباحا وهاجا لمن أراد أن يهتدي حيث قال:
( أبدعوى الجاهلية وأنـا بين أظهركم ؟! دعوها فإنها منـتـنة )
بهذا المنظار يجب أن ننظر إلى كل سبب من أسباب الفرقة بين المسلمين اليوم ؛ فننادي بأعلى أصواتنا دعوها فإنها منتـنة . إنها نزعة التعصب المشؤومة ، إذا سرت في شرايين الأمة وفشا فيها سمها تـفـتـت نسيجها وتشتت شملها ، لأنها تنحرف بالإنسان عن طريق الولاء للعقيدة وتسلخه عنها ، فالتعصب للهوى والمذهب والتعصب للأحزاب والتعصب للأشخاص والانغلاق في إطارها وضمن حدودها وتقديمها على العقيدة وعلى المصلحة العامة ، تلك هي نقطة الضعف القاتلة لوحدة الأمة والمفرقة لصفها . ولا سبيل إلى السلامة من آثارها التدميرية على جسد الأمة إلا بالاعتصام بالعقيدة الصحيحة الثابتة التي تجمع ولا تفرق وتوحد ولا تشتت ، وتنادي بنا في كل وقت وحين دعوا العصبية وانبذوها فإنها منتنة .