النوم على أنغام الواقع
النوم على أنغام الواقع
محمد السيد
كيف يشتعل الأمل إن لم تُرَق على جوانبه شطآن الولادة..؟ هيا ابدأوا من فوق ، واعطوا العيون الوامضة كل الفرص، وارفضوا النوم في صحراء الواقع، والفظوا حر الفوضى التي يشعلها الغرق في الطين، وليَنمُ القفز فوق الضرورات، لنخرج من أجساد وأفكار منهكة بخدر أحدثته وقائع اللحظة المارقة، وكبلته بأصفادها قولة مميتة: إن أرجاءنا ممهورة بالسكون، وإن عقولنا منقوعة بماء التخلف، ولا خروج إلا باستعارة مكنية إلى من لايريد لنا الخروج أبدا.
ويزدان الواقع بعناقيد الاختلال، وغشاوات سميكة ، جعلت كلماتنا تهيم على وجهها، بلا رؤية، بلا هدف، بلا دليل. دعوات حثيثة الصراخ تنادي بالنوم في وحل هذا الواقع، وباتخاذه منطلقا ومؤسسا للحاضر والمستقبل فهو الذي يستحيل تغييره، وهو الذي يفرض برامجه وجدوال أعماله، وهو المسوغ لكل قبول بالدونية، ولكل رضوخ للأوامر السَنِيّة، بل وتسويق هذا الرضوخ على أنه وسطيةٌ واعتدال وعقلانيةٌ مرة، وحداثةٌ وتقدمٌ ونهضةٌ مرة أخرى.
أرجوكم لاتطيلوا غربتنا بالقعود في أحضان هذا الواقع.. قتلنا الضجر، وتفككت مفاصل وجوهنا من كثرة التثاؤب على شواطىء هذا الهذيان الذي يسمونه الواقع، يريدوننا الا نحزن، و أن ندير وجوهنا لهذا الذي يحدث في ربوعنا ؛ من فلسطين إلى أفغانستان وكشمير مروراً بالعراق، ثم نموت من الضحك، لأننا لانبالي بكل هذا، ولايوقف تقدمنا أي شيء من هذا..
فها نحن نركب سياراتنا ونذهب إلى الشواطىء ، نعرض الأجساد بفرح طفولي ، وها نحن على خطا المتقدمين، نركل النار التي تحيط بنا من كل جانب ، ونزجي الأوقات في النوم إلى ساعات متأخرة من نهارات الملل التي تسكننا، ثم إذا فاجأنا الصحوا المبكر عند الآخرين، ونخز ضمائرنا شيء من التأثر بما نشاهده في التلفاز ، أوقفنا حبل التفكير، و اهتزت منا الرؤوس، و امتطت شفاهنا ظهر اللامبالاة، وسقنا بقية يومنا إلى خليط من هذيان السلوك ؛ فساعة لتقليب مفتاح "الرأئي" ولكن ليس لرؤية فعل المقاومة في الفلوجة في الرمادي، في غزة في نابلس في جنين ، بل لمشاهدة عروض الأزياء ، أو عروض كرة القدم ، أو للتمتع بوصلة ضجيج وهرج من عمرو دياب أو نانسي أو حتى مشهد مقزز من ستار (.....) ، وكلها وجبات تقول لك: واقع.. واقع، نم في العسل، فأنت على سكة النهوض ، وفوق حدّ الحداثة، وبين أسنان مفرمة الانقراض ..!... وساعة لسماع عروض(السلام العادل والشامل)، أو لمشاهدة فيلم مثير ، (لن تفهمه) عن عروض مصرية .. مرة يهدونها لأهل فلسطين ، على شكل برشامات أمنية ، تفيد في تسكين الرؤية ، كي لاينفضح (طابق) الأهداف، ومرة يهدونها لحكومة الأمريكان في العراق ملغومة بهمِّ العصر "محاربة الإرهاب" .!!.. وهي (مقلوبة) محاربة الشعوب...! محاربة الإسلام..!.
عجيبة ثقافة الواقع هذه ! فرية مدهونة بزبدة الخداع ، يدعوننا للنوم في أحضانها.. ذات الأنياب والمخالب ، ولكي نظل في أطلالها .. نهيم .. نبحث عن مدننا الأصلية فلا نرى لها صورة إلا في ضوء مدنهم المسكونة بانتحار الإنسان ، وغياب المؤانسة ، وضجيج الانتاج العبثي، وفحيح المصانع ، الموشك على تخريب كل شيء فوق هذه الأرض التي أنعم الله بها علينا لنعمرها... لا لننشر في أرجائها مرارة الأطماع التي تضفي بالتعاسة على كل الأرجاء.
هل نقول إن هذه الثقافة ، تقف سدا منيعا ضد ما ينادي به أصحابها من حرية وديموقراطية ؟؟ فهم بهذه الثقافة يناقضون أنفسهم ، ويقفون في صف الديكتاتوريات التي تسوّق الأعداء ، ثم تسوّق على الأعداء مركزيتها، وذلك من أجل الاحتفاظ بالبقاء والاستمرار في التمتع بالامتيازات التي تتيحها لهم مواقعهم ، انطلاقا من ثنائية مقيتة ، هيمنت على سطح الثقافة الراكد ، فأطلت بصورتها النكدة عقودا مديدة ، يتظاهر فيها أصحاب ودعاة ثقافة الواقع بانتمائهم إلى عصر الغرب ، في حين أنهم في التطبيق وفي الصورة العملية يقفون في مقابل عصر الحريات والتعددية، وانتقال السلطة بسلاسة.
وفي الوقت الذي يظن الكثيرون (وبعض الظن إثم) أن مؤسسات المجتمع المدني _ التي راحت العولمة السياسية والثقافية تلوح براياتها من أجل الإصلاح أو التغيير _ هي مؤسسات قامت وتقوم من اجل حرية الناس والدفاع عن حقوقهم الحياتية والقانونية والمعاشية (وهي في الأصل التكويني لها كانت كذلك) لكنها في الصورة الفوتوغرافية لها ، تحولت إلى بنيات متغربة: "متأمركة" أو "متأوربة" أو تائهة بين مقتضيات الهوية والخوف. وهكذا فقد اصطفت هذه المؤسسات (في الغالب الأعم) في مواجهة تيار النهضة الذي يبني مقولاته على أسس من ثقافة الهوية المنفتحة المبصرة وذلك التيار المتمسك بوسطية الإسلام وثقافة الأمة ، ومصالحها المتجددة، ولما وقفت بعض هذه المؤسسات في أكثر من مكان الوقفة الشماء المرجوة منها، اعتدى عليها تيار ثقافة الواقع المتغلب بقوة السلطة، أو قوة اندفاع العولمة، محاولا محو آثار تجاوزها للواقع، أو تعلقها بأمل المستقبل المرهون بالقفز فوق حمأة وفوضى الواقع ، إلى رؤية صنعت خروج هذه الأمة من أزمات واقعها على مدى القرون ، بإبداعات ثقافة التحصن بالهوية الناضجة المتجددة المبصرة.