رأيته أفقاً يقطر دفئاً (2)
رأيته أفقاً يقطر دفئاً..!! 2 من 2
محمد السيد
مابين قوسين تنزل الكلمات الفارقة، التي تجمع بين عفو البديهة وكدّ الروية وتفاعل الملكة مع المعرفة ـ على حدّ تعبير أبي حيان ـ حيث يتم عندئذٍ بروز الوجه الخصيب في الحدث المعرفي المنتج من الحدث اللساني...
لكن بعضاَ ممن يدعي أنه منا، قد فارق معرفتنا منذ زمن، أتيح فيه لغرباء اللسان والبيان والمعرفة أن يتصدروا قواميس الكلام، فوق أسطح الصحافة وسماوات البث الفضائي المسموم، وأن يُعجموا حروف اللسان، ويرطنوا بلغة الكره للمعرفة الحقة، التي تختزن ذاكرتنا وتنتح حاضرنا، ويمكن إذا فُعِّل استيعابها، وتم ترتيب أواصرها مع تفاعيل عصرنا أن تحتل مستقبلاً زاهراً لمكانتنا وكلمتنا وحضورنا.
واحد من هؤلاء غاظه مشهد وجود كلية للشريعة في دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية الفذة، فقام قبل الهزيع الأخير من حضور الحاطبين بليل، بتسمية تلك الكلية »وكر الإرهاب الأصولي« مطالباً بإغلاقها، مستخدماً اللغة الحجرية، في تقسيمات هجينة للشعب السوري، جاعلاً السنة الذين يشكلون 75 ـ 80% من السوريين طائفيين، محرضاً على مدرسيها وفكرها. والعلم الذي تُرقّي به أفهام شباب سورية، وتجعلهم من خلاله ملتصقين بأمتهم ودينهم ومعرفتهم، التي فيها جميعاً يكمن ذلك الأمل في الفوز بمكان سامق في أفق العالم المائج بشتى المعارف...
إليك عنا أيهذا المتسول على موائد الظلام، المنضم إلى صف الباحثين عن أشكالهم في صور ثبت بالرؤيا العلمية والواقعية أنها لا تحمل سمات النجاة.. خصوصاً وأنها أنتجت في كثير من نواحي الحياة أكداساً من الهراء، الذي قاد إلى ما نراه اليوم من دمار، يحيط بكل المجتمعات الإنسانية. كما قاد الديموقراطيات الغربية إلى الوقوع في وحل الكراهية والنفاق، الذي قاد اليوم زعيم المحافظين في مجلس العموم البريطاني إلى تقديم اقتراح لحكومة بلير بمنع الشيخ يوسف القرضاوي من دخول بريطانيا بحجة أنه يحرض على العمليات الإرهابية ضد الصهاينة... (أولئك الذين زرعهم هذا النفاق وذلك الظلم البريطاني وتلك الكراهية لجنس المسلمين في أرض فلسطين) بعد أن عمل الانتداب البريطاني لفلسطين طوال ثلاثة عقود على اغتصاب الأرض والثروة وسيادة شعبها والوصول بهم إلى أن يصبحوا مشردين في الأرض، وليحل مكانهم أناس لاحق لهم في الأرض، ولا قانون يوجب لهم حقاً في الوجود مكان شعبها الأصلي، مالكها تاريخياً وواقعياً وشرعياً قانونياً.
ألا ترون.. أن هذا الإنكليزي وذلك العربي يمتحان من بئر آسنة واحدة، صاحبها الغربي، ومتسولها ذلك العربي..
ولكنني أعود فأقول إني رأيته أفقاً دافئاً ـ ذلك الدين الذي قاد الأمة كل مرة إلى برّ الأمان منذ أربعة عشر قرناً ويزيد ـ ، ورأيت هؤلاء لا ينظرون أبعد من أنوفهم، ولا تقع أبصارهم إلا على الدنية، »كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا«..
هاهو يطل من جديد، يضيء البيان الذي خلّفه فكر هؤلاء، الذين احتلوا أفق الأمة في القرن الماضي وحوّلوه إلى قبورٍ دفنوا فيها الحياة الفذة، المستجلية للمعرفة المتجددة باللسان ذي الكد والبديهة، والأصول التي صنعتها اليرموك والقادسية وحادثات الفتح المبين، وأحيوا في ساحاتنا موات الحداثة الشكلانية التي لا تأخذ من هناك سوى الوبال والأشكال المخجلة، ثم ليقذفوا في وجوهنا تلك القمامة، معلنين بضجيج هو إلى الفحيح أقرب: أن تلكم هي الحداثة..! وأن هلموا إلى التنوير والتحديث. فذلكم هو العصر.
لقد التقينا بمثل هؤلاء في مناسبات مخجلة عدة، صنعوها بهمتهم المدخولة.. التقيناهم يوم الخامس من حزيران عام ،1967 والتقيناهم في حرب لبنان، والتقيناهم في تشرين ،1973 والتقيناهم كل يوم كنا فيه مقموعين مسجونين مهمشين مقتولين من قبل بعض الأنظمة، التي قامت ونهضت وحكمت بثقافتهم وحداثتهم وتنويرهم وضجيجهم المأفون، المسكون بالكثير من دعوات دفن الذاكرة الجمعية للأمة، خصوصاً هجومهم على تعامل مع المرأة، في زمن غادر فيه الحلم الأصيل من شرع وامض بالحلول، إلى تعامل جاهلي عقيم، مدعين زوراً وبهتاناً أن هذا هو شرع الإسلام.. ترى فهل غادر الشعراء من متردم؟ أم أن هذه إحن تسربت من وجوه ورؤوس تبتغي الهدم، ولا بدائل حقة تملكها سوى هذا الغثاء؟ وعندئذٍ ماذا نقول إذن للضياء الدافئ الذي يقول: للمرأة وعن المرأة كلاماً ولا أندى ولا أرفع، وإليك أيها الباحث عن الحق بعضاً منه: »ولهن مثل الذي عليهم بالمعروف«، وذلك بعد أن يمر بحنان الكلام الرسالي القائل: »ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم«، ولا يغادر الدنيا إلا وهو يحث الجموع الموجودة والجموع القادمة إلى يوم الدين أن: »استوصوا بالنساء خيراً.. استوصوا بالنساء خيراً« فإنهن: »شقائق الرجال« وهن أمهات الرجال والنساء، أحق الناس بحسن الصحابة، وحيث الجنة تحت أقدامهن وعملياً. وانطلاقاً من هذا وبناء عليه فقد اكتسحت أم المؤمنين الحميراء رضي الله عنها وغيرها من نساء الإسلام على مدى العصور الرجال في العلم والفعال.. وكل ذلك من صنع ذلك الأفق الدافئ الحنون.. وإذن فلا نجاة لنا إلا بأن نركل الدخيل وأن نلجأ إلى ملامح الأصيل...