نريد أن نموت في بلدنا!!

فيصل الشيخ محمد

في سؤال بريء سألني ولدي الذي دخل في هذه السنة عامه السادس: لِمَ لا تذهب إلى سورية.. أليست سورية بلدك؟!

وجمت لأول وهلة، فقد كان السؤال مفاجئاً لي، وخاصة من ولدي الذي دخل في عامه السادس منذ أيام.. ورحت في أعماق ذاتي أجول وأصول.. بما سأجيب ولدي على سؤاله الاستنكاري؟!

قلت بعد سكوت طويل، وتأمل في قسمات وجه ولدي الذي كان جاداً وينتظر مني جواباً واضحاً وصريحا ومقنعاً:

سورية بلدي وهي أحب أرض الله إلى قلبي، وإني أعشق هواءها وأهيم بترابها.. ولكن عملي يحول دون تركه والذهاب إليها!!

قرأت في وجه ولدي التبرم وعدم قناعته بما أجبته، فقال مستغرباً:

خذ إجازة.. كل الناس بتاخد إجازة وبتروح إلى بلدها وبتشوف أهلها وناسها.. أليس في عملك إجازة؟!

احتضنت ولدي ورحت أقبله حيثما هامت شفتاي عن غير إرادة أو تركيز، وقلت له: سأحاول هذه السنة أن أحصل على إجازة، وأذهب معك إلى سورية بعون الله إذا تيسرت الأمور ووافق السلطان على زيارتي لبلدي.

ألح ولدي علي بأن أسعى في الحصول على إجازة لأصحبه هذه السنة إلى سورية وأشوف الأولاد والأهل ومن بقي منهم على قيد الحياة.

وبعد صمت التفت إلي ولدي ثانية وقال بلهجة جدية: لا زم تروح لسورية حتى إذا خلص عمرك ومتت ندفنك جنب قبر جدو ونانة وعمو وخالو وعمه وخاله.. ما بعرف شو اسمهم.. ماما قالت لي عندما نزلنا لسورية، أنو كتير من عمامك وخوالك واخوانك وعماتك وخالاتك ماتوا وبابا ما شافهم ولا حضر جنازتهم ولا صلى عليهم ولا قرأ الفاتحة على قبرهم.

حاولت - عبثاً - أن أضبط نفسي وامنع الدمعة من أن تسيل على خدي حتى لا ألفت انتباه ولدي، وأتسبب لنفسي بكثير من الأسئلة المحرجة التي لا جواب لها عندي.. فكل ما يقوله ولدي حقيقة.. مات الأب وماتت الأم ومات الأعمام ومات الأخوال وماتت العمات وماتت الخالات، ولحق بهم الإخوة والأخوات، وحتى أولاد الإخوة والأخوات، ونحن بعيدين ممنوع علينا تنسم هواء الوطن أو ملامسة ترابه، أو معانقة الأحباب أو توديع الأعزاء وهم يشيعون إلى مثواهم الأخير!!

لم يمر معي وأنا قارئ مدمن أوصل الليل بالنهار منكباً على المطالعة، أن هناك مجموعة من الناس حُرمت من زيارة بلدها قسراً لنحو ثلاثين عاماً في أي بقعة من بقاع العالم مهما كانت جناية هذا المواطن، فمرتكب جريمة القتل وهي أم الكبائر تسقط عنه عقوبتها بعد 25 سنة فاراً (واعتبر القانون أن البعاد عن الأهل والوطن 25 سنة يعادل عقوبة الجريمة).. فأي جريمة اقترفتُ ومئات الألوف أمثالي حتى نُحرم من العودة إلى الوطن والعيش فيه بأمن وسلام وكرامة ككل البشر أمثالنا في القارات الخمس في هذا العالم الذي ننتمي نحن إليه؟!

جريمتنا هي أننا نختلف في الرأي مع النظام في بلدنا، الذي يلاحقنا وذرارينا بموجب قانون ظالم سنّه عام 1980 وهو قانون العار رقم (49)، الذي يحكم على كل منتم لجماعة الإخوان المسلمين وذريته بالإعدام بأثر رجعي.. وقد قضى الآلاف ضحية هذا القانون الجائر، ولا يزال سيفاً مسلطاً على رقابنا ورقاب ذرارينا منذ العام 1980، ونحن الآن في العام 2009 ويحول بيننا وبين العودة إلى الوطن!!

وهنا تحضرني مقولة الفيلسوف فولتير: (قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في الدفاع عن رأيك).. وأتساءل الم يطلع عقلاء الحزب الحاكم في سورية على هذه المقولة التي قيلت منذ قرنين ونيف، ويشيروا على صاحب القرار والسلطان في البلاد، أنه من المعيب على النظام ونحن في القرن الواحد والعشرين أن يُجرَّم الإنسان بالموت لقاء رأيه، ويمنعنا من العودة إلى أوطاننا.. حتى إذا ما انتهى عمرنا - كما قال ولدي - نموت في بلدنا وندفن تحت تراب الوطن؟!