الأسوة الحسنة (3)
الأسوة الحسنة (3)
|
بقلم: عبد الله خليل شبيب |
)لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً(
ظروف نزول الآية الكريمة (غزوة الأحزاب):
نزلت هذه الآية الكريمة (آية الأسوة الحسنة) في سورة الأحزاب
التي تحدثت عن غزوة الأحزاب أو (الخندق) التي تعرض فيها المسلمون لموقف من أصعب المواقف في حياتهم.. ومؤامرة كادت –لو تم لأطرافها ما حبكوه- تعصف بالدولة الإسلامية الفتية، وحسبنا أن نقرأ ونسمع ذلك الوصف الدقيق الموحي، البالغ الإعجاز في التصوير والسبك البلاغي، الذي صورت فيه الآيات الموقف المهول الذي ذكرنا..
)إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون.. هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً(.
ثم تتحدث الآيات التالية عن مواقف المنافقين والمعوقين والمرجفين في المدينة، وعن هلعهم وتخاذلهم، وإرجافهم وجبنهم ودور (الطابور الخامس) الذي لعبوه أو حاولوا أن يلعبوه.
ثم تأتي الآية الكريمة، فبعد أن فصل أحوال أولئك المنافقين، وشرح نذالتهم وعظيم جبنهم، عاتبهم أشد العتب وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله معتبر لو اعتبروا وأسوة حسنة لو أرادوا التأسي.. كما قال المراغي في تفسيره.
وتذكر الآيات بعد ذلك صدق المؤمنين مع الله ورسوله وتصديقهم بوعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
مواطن التأسي به: في أقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم
قال ابن كثير في تفسيره لآية (الأسوة الحسنة) وتعليقه عليها:
(هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه دائماً، إلى يوم الدين، ولهذا قال تعالى للذين تخلفوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب:
)لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة(
أي: هلاّ اقتديتم به، وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى:
)لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً(.
في أقواله صلى الله عليه وسلم:
فقد كان صلى الله عليه وسلم في أقواله صادقاً حتى في مزحه.. كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان متعففاً متنزهاً عن اللغو والحشو والتشدق والفحش والإساءة.
أُعطي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، كان كلامه واضحاً مختصراً –على قدر المعنى المقصود إبلاغه للسامع- ملائماً لحال السامع باذلاً الفائدة من خلاله للآخرين، فيأخذ كل من الناس بقدر حاله واستعداده.. فمنهم من هو كالأرض الصالحة أو الجنة بربوة، تتشرب الفائدة كلها من الغيث النبوي الصافي.
ومن القرآن الكريم كذلك، فيشع هؤلاء هدياً ونوراً مما تلقوا، ويثمرون هدياً وخيراً للآخرين كما تعطي الأرض الطيبة ثمارها بسخاء.
ومن الناس من تنحصر فائدته لنفسه لا تتعداه منكباً على نفسه جاهداً في إنقاذها والخلاص بها وحده، كأنما قامت قيامته.
ومنهم من هو كالأرض الصخرية الجدبة تحتفظ بالماء وتفيد الناس فيستقون منها لكنها هي لا تستفيد منه، فهذا مثل من أفاد غيره بما علم وسمع ولم يفد نفسه فأسعد غيره وأشقى نفسه.. وهذا هو الذي يدور يوم القيامة كحمار الرحى تندلق أقتابه.. وحين يندهش الناس لحاله لأنه كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فيبرر سوء حاله بقوله:
(كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
كما ورد في الحديث المشهور.
أما النوع الرابع من الناس –من حيث موقفهم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم- فهم الخاسرون الرافضون هدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هم المظلمة قلوبهم المعرضون عن الحق والظالمون الذين لا يزيدهم حتى القرآن إلا خساراً وهو عليهم عمى.. وكذلك السنة فهؤلاء كالأرض السبخة والقيعان التي تفيض فيها المياه وتضرها فلا تنفعها، ولا تنتفع هي بالماء ولا ينتفع منها أحد..
وذلك مصداقاً للحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن مثل ما بعثني الله به –عز وجل- من الهدى والعلم: كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منه وسقوا ورعوا وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) ولاشك أن الحريص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول أن يكون مع الصنف الأول لا مع الأخير.
عن أفعاله صلى الله عليه وسلم:
أما أفعاله صلى الله عليه وسلم، فكانت متطابقة تماماً مع أقواله، وكان ترجماناً عملياً للقرآن الذي أنزل عليه كما وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها (كان خلقه القرآن) –كما أسلفنا سابقاً- كيف بمن أدبه ربه فأحسن تأديبه، وعصمه سبحانه من كل سوء وخطأ، فكان المثل الأعلى للبشرية وعلى رأسها خير قرونها أصحابه الكرام الذين هم أئمة الهدى وبهم يُحتذى ويُقتدى كما ورد في بعض الآثار:
(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
وقد فصلت أعماله وسنته العملية، في سيرته صلى الله عليه وسلم وفي كتب السنن والصحاح، وفيها لطالب الاتباع مغنى ومقنع.. وقد اجتهد رجال الحديث والسير في جمعها وتصنيفها وتوضيحها، وتفسيرها وبذلوا في ذلك جهوداً كبيرة نسأل الله لهم عليها كبير الأجر وجزيل الثواب.
وقد تركوا لنا –نقلاً عن أصحابه الذين أحبوه- وصفاً دقيقاً لكثير من أفعاله وأحواله، وتفاصيل حياته الكريمة المباركة ومواقفه، صلى الله عليه وسلم إضافة إلى أقواله مما لم يحظ به زعيم ولا عظيم، في سائر أدوار التاريخ قديمه وحديثه، حتى في عصر السينما والتلفزيون والصورة والتسجيل.
ذلك أن حب الصحابة رضي الله عنهم –ومن بعدهم- لنبينا صلى الله عليه وسلم وشغفهم بسيرته العطرة وأخباره وحرصهم على الاقتداء به جعلهم يحفظون عنه الصغيرة والكبيرة، من الكلام والحركة والقول والفعل والتقرير والسيرة.. هذا مع بعد الزمن الفاصل بين التسجيل وبين صاحب السيرة والسنة صلى الله عليه وسلم مما يحتمل معه ضياع الكثير أيضاً بوفاة الصحابة والتابعين وغيرهم من رجال السند رضي الله عنهم ومع ذلك بقي لنا علم كثير غزير بذلت في تمحيصه وتصنيفه جهود كبيرة كما أسلفنا.
فما على من يريد التأسي به، صلى الله عليه وسلم في أفعاله إلا أن يعكف على كتب السير والسنن ينهل منها ويجعلها دستوراً لحياته مع القرآن الكريم.
من أحواله صلى الله عليه وسلم:
أما أحواله صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن هو موصول بربه –عزّ وجلّ- صلة دائمة لا تنقطع.. فلا يغفل أبداً عن ذكر الله ولا يتصرف أو يتحرك إلا بوحي الله، ولا يصدر إلا عن رضا الله ومشيئته وأمره.
فهو رباني بكل معنى الكلمة قلبه معلق بالله مسلم في كل أموره لله- مع الأخذ بالأسباب- حسب أوامر الله تعالى:
(إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني).
(تنام عيناي ولا ينام قلبي).
(أدبني ربي فأحسن تأديبي).
كما قال صلى الله عليه وسلم..
وكذلك كما قال تعالى:
(والله يعصمك من الناس).
(فإنك بأعيننا).
(ولا تكن من الغافلين)
(ألم نشرح لك صدرك).
)يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً)
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)
(ومن يطع الرسول فقد أطاع الله)
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)
وغير ذلك كثير..
فقد كان السراج المنير صلى الله عليه وسلم ينظر بنور الله ويسعى بأمر الله .. فإذا كان المؤمن كذلك، وإذا كان المكثر للنوافل حتى يحبه الله، فيكون سمعه وبصره..إلخ فما ظنك برسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المؤمنين وسيد المرسلين أجمعين وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، وأقرب الخلق قاطبة إلى الله، وأٍرقاهم مقاماً، وأصلحهم حالاً..
فلينظر مريد التأسي به في أحواله صلى الله عليه وسلم- إلى صبره وشكره- ويقينه وحسن ظنه بالله تعالى وثقته بنصره، وزهده بالدنيا، إنه قاد بضعاً وثلاثين غزوة، وسير ضعفه من السرايا.
ولينظر كذلك حسن توكله وثباته، في السراء والضراء، وحسن تعامله مع الناس جميعاً من زوجاته وأهل بيته إلى صحابته وحتى مع أعدائه من المنافقين وغيرهم.
ولو ذهبنا نعدد أحواله وشمائله وفضائله صلى الله عليه وسلم لطال بنا المقام طويلاً ولم نوفه بعض حقه فليستجلِ ذلك من شاء في كتب السير والسنن والشمائل كالشفاء للقاضي عياض رحمه الله وغيره من الكتب.
التأسي به في صبره وثباته صلى الله عليه وسلم وثقته بنصر الله:
بقي أن نشير إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، وصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين (كما قال ابن كثير الدمشقي رحمه الله).
وذلك في غزوة الأحزاب التي سبق أن أشرنا إليها وإلى وصفها:
فقد كان صلى الله عليه وسلم ثقة تامة من نصر الله وتصديق مطلق لوعد الله تعالى:
)إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد(.
كان واثقاً تمام الثقة أن منهجه الرباني وخطته الإلهية واستقامته على أمر الله، ستوصله حتماً إلى ذلك النصر الموعود والهدف المنشود، فقد كان صابراً ثابتاً مصابراً مرابطاً، ولم يكن يتطرق إلى نفسه أي شك في صدق وعد الله تعالى ولا في أي مرحلة من مراحل كفاحه المجيد.. حتى في أحلك اللحظات التي هو بها، والتي لم يكن يصدق الكثيرون أنه وصحبه يستطيعون النجاة بأنفسهم منها سالمين.. فضلاً عن أن يصبحوا سادة العالمين ويغلبوا أكبر قوى الأرض وأقوى دولة آنذاك.. في تلك اللحظات، كان عليه الصلاة والسلام يبدو واثقاً أعظم الثقة بربه ومنهجه وثمرة جهاده.
أمل وثقة حتى في أكثر اللحظات حرجاً
ولنضرب أمثلة ثلاثة لتلك اللحظات الحرجة التي كان المسلمون يمرون بها وكان صلى الله عليه وسلم يرى من خلال شدتها وظلامها فجر النصر القادم..
قبل الهجرة
أحد تلك المواقف كان في مكة قبل الإسلام حيث اشتكى إليه أصحابه من شدة تعذيب المشركين لهم، وما نالهم من الأذى فاعتدل غاضباً وكان متكئاً في ظل الكعبة، وضرب لهم أمثلة بما لقيه من سبقهم من أتباع الأنبياء من أذى أشد.. حتى إن أصحاب المسيح عليه السلام نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب وكان يمشط بأمشاط من حديد ما بين جلد أحدهم وعظمه ما يرده ذلك عن دين الله شيئاً، ثم زف إليهم البشرى:
(وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري، 1 – 510.
كان هذا وهم قلة، تظن قريش –وكل من ينظر بمنظار العقل القاصر- أن القضاء عليهم ميسور، وأنهم لا يضمنون سلامة أنفسهم.
خلال الهجرة (وعد سراقة)
أما الموقف الآخر، فقد كان خلال الهجرة نفسها، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ومعهما خادمه ودليله، وكانت قريش تطلبه في كل فج، ووضعت مكافأة مائة ناقة لمن يأتيها به.
فأدركهم سراقة بن مالك بن جعشم من بني مدلج.. وحصل له ما حصل من تعثر فرسه به وسقوطه عنها أكثر من مرة ثم ساخت يداها في الرمل ولما أخرجتهما خرج وراءهما من الأرض مثل الدخان، فاستأذن سراقة الركب، فأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب أن يكتب له كتاباً فأمر عامر ابن فهيرة ففعل، وتقول بعض الروايات: إنه وعده بسواري كسرى:
(كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى).
وتحقق ذلك الوعد لسراقة رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه، حين جاءت غنائم كسرى وفيها التاج والسواران فنادى عمر:
(أين سراقة؟).
فجاء سراقة، فألبسه سواري كسرى، وأصعده المنبر ليرى الناس كلهم –عملياً- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وليكونوا دائماً على ثقة من نصر الله تعالى وصدق وعده للذين آمنوا بالنصر المبين.
قد يستغرب الذي لا يؤمن بالله، والذي ينظر للأمور بمقياس العقل والمادة كيف يعد رجلٌ آخر بسواري ملك معظم في قومه وغيرهم مهاب –وذلك المهاجر تطلبه قريش حثيثاً.. ويكاد يظن الظانون أنه لا يكاد يسلم منها.. ولم يكن لديه آنذاك جيش ولا سلطان.. ولا سلاح إلا الإيمان.. ما كان إلا ثاني اثنين أو رابع أربعة.. لكنه كان موصولاً بقوة الكون كلها.
بعد الهجرة (في غزوة الأحزاب)
أما الموقف الثالث فهو ما نحن بصدده.. وذلك ما روته بعض كتب السنن عن البراء بن عازب، رضي الله عنه قال:
"لما كان يوم الخندق عرضتْ لنا في بعض الخندق صخرةٌ لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال:
"بسم الله" وضرب ضربة فقال: الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب ثانية، فقطع آخر فقال: الله أكبر أُعطيتُ فارسَ والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني".
وفي بعض الروايات ذكر أنه كانت تلمع من كل ضربة للصخرة لمعة عظيمة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن قصور كل بلد بشر بفتحه.. أنه رآها كأنياب كلاب وأن الله قد ملكها للمسلمين.. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سيد قطب في التعليق على الموقف:
(وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان، وإن دراسة موقفه صلى الله عليه وسلم في هذا الحادث الضخم لما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم، وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وتطلب نفسه القدوة الطيبة ويذكر الله ولا ينساه).
وقال سيد قطب كذلك:
(كانت روحه صلى الله عليه وسلم تستشرف النصر من بعيد، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول، فيحدث بها المسلمين، ويبعث فيهم الثقة واليقين).
حاجتنا للأمل في ظروفنا التعيسة
هذا الأمل الواثق بنصر الله – في هذا الموقف المهول، الذي أشرنا إليه، ووصفه القرآن كما ذكرنا من قبل... لا يكون هذا الأمل إلا في قلب مؤمن بربه واثق من صحة منهجه.. ونتيجته.. بعد أن قام بما عليه –وأصحابه- مع الالتزام بذلك المنهج.. والأخذ بالأسباب الممكنة وبذل الجهد... فحفروا الخندق –وأعدوا السلاح ووقفوا حراسه مدافعين يذبون عنهم المشركين... تركوا أعمالهم وبيوتهم وراحتهم... في جو من البرد والخوف والقلق والجوع.. لا يعلمه إلا الله. حتى إنهم ربطوا الحجارة على بطونهم.. وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرين على بطنه الشريف.
هذا الأمل الواثق والثبات السامق.. هو أحد أهم مقاصد القدوة في هذا الموقف –إن لم يكن مقصدها الأول والأكبر.
فما أحوجنا –في هذه الأيام- إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته وجهاده ومرابطته، وإعداده وصدقه.. وأمله وثقته بنصر الله تعالى.. خصوصاً ونحن نخوض في ظلمات الجهل والبغي والشتات والهزائم والذل والحيرة والفتن التي هي كقطع الليل المظلم.. وقد سلط الله علينا أحطَّ خلقه، وأذلَّ أهل الأرض من اليهود الذين أمدهم بحبل من الكافرين الطامعين حتى يئس الأكثرون.. وظنوا –كما ظنوا عن التتار من قبل- أن اليهود لا يغلبون.. وبغى اليهود. وعاثوا في الأرض المقدسة فساداً. دنسوا مقدساتنا.. وفتكوا بأهلنا وسلبوا حقوقنا.. وساموا وجوهنا... ودخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة.. وتبروا ما علوا تتبيرا، واستهزأوا بكل العالم وقرارات هيئاته الدولية.. وبكل العرب والمسلمين وصيحاتهم المدوية. وعلا بنو إسرائيل علواً كبيراً، ما عليه من مزيد، وما نظن بعده من علو لهم.. وما بقي إلا أن ينكل الله بهم. وينكسهم فيقعوا من علوهم المتغطرس.. وقمتهم النهائية التي لا تكون بعدها لهم قومة أبداً..
ويتحقق وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالقضاء عليهم... إن موعدهم الصبح.. أليس الصبح بقريب؟! ولكنا بحاجة إلى الأمل.. والعمل.. وإن الليالي حبالى يلدْنَ كل جديد.. وإن الله لقادر على أن يحول الأحوال في لمحة:
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
الأسوة الحسنة في الآية الكريمة
بقي أن نلمح إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في:
1 – الرجاء بالله.
2 – والرجاء في اليوم الآخر.
3 – وذكر الله كثيراً.
رجاء وجه الله
فرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يرجو وجه الله ويبتغي رضاه في كل ما يأخذ وما يدع. وكان شعاره ومناجاته لربه:
(إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي).
فلا يهمه رضا من رضي وسخط من سخط من الخلق.. ما دام الله تعالى راضياً عنه.. فقد جعل الله همه.. فكفاه ما أهمه.. وهكذا نحن مطالبون أن نكون، وفي مثل هذا يجب أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم.. أن نجعل الله نصب أعيننا ومعقد آمالنا وكل همنا.. فلا صدر إلا عن أمره.
الرجاء في النجاة من هول القيامة والنار بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما رجاء اليوم الآخر.. فهو مرتبط بإرادة الله تعالى والرجاء الحسن فيه:
"أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجو النجاة والفلاح والجنة والمزيد من اليوم الآخر.. وعمل ذلك.. وأعدَّ له عدَّته.. وحين سأله أحد الصحابة عن الساعة قال له صلى الله عليه وسلم:
(ماذا أعددت لها؟).
قال الصحابي: (لاشي إلا أني أحب الله ورسوله).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت).
قال الصحابة: فما فَرِحنا بشيء فَرَحَنَا بتلك البشرى، وهنّأ بعضهم بعضاً بذلك لأنهم يعلمون من أنفسهم صدق محبتهم لله ورسوله.. محبة ملكت عليهم مجامع أنفسهم وجعلتهم يفدونه بأهلهم وأموالهم.. وكما قال صفي الدين المباركفوري في كتابه عن السيرة العطرة المسمى (الرحيق المختوم) ص136:
(أما أصحابه ورفقاؤه فقد حلَّ منهم محلَّ الروح من النفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس:
فصورته هيولى كل جسم ومغناطيس أفئدة الرجال
وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا (يفضلون) أن تندق أعناقهم على أن يخدش له ظفر أو يشاك شوكة).
ومثل هذا كون من يرجو اليوم الآخر حقيقة ويتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
وذكر الله كثيراً
أما الذكر الكثير، فهو السبيل إلى تحقيق محبة الله ورسوله وحسن الرجاء في الله واليوم الآخر. بل الطريق إلى معرفة الله تعالى وإرادته والرجاء فيه وسبب النجاة والفلاح فقد كان صلى الله عليه وسلم على ذكر دائم ظاهراً وباطناً. وحاشاه أن يغفل عن الله تعالى لحظة واحدة.. ولا يكون الذكر كثيراً –بوصف الله تعالى –إلا إذا فاق العدد.. واتسم به صاحبه.. فصار سمتاً له وصفة مميزة حتى أصبح من (الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، ممن أطاعوا أمر الله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيرا ً).
ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره.. وهكذا أحباب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. فأوصلهم ذكرهم وحبهم إلى معرفة ربهم.. فهذا هو الذكر المثمر المنتج الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أفضل الأعمال وأزكاها عند الله (مليكنا) وأثقلها في الميزان وخير من إنفاق الذهب والورق ومن أن نلقى عدونا فنضرب رقابهم ويضربوا رقابنا.. إلخ.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين الشاكرين القانتين الخاشعين العارفين المحققين الصادقين المحبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.. المتأسين به عليه الصلاة والسلام خير أسوة حسنة في أقواله وأفعاله وأحواله.. لنكتب من الناجين ونفوز مع الفائزين.. وندخل الجنان مع الداخلين.. دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.