هلوسات صيفية "1"

هلوسات صيفية "1"

بقلم : نوال السباعي 

[email protected]

منذ أن صار الخبر بفلوس , تبرعت ابنتي بإلغاء خدمة الأخبار الخاصة في هاتفي الجوال , فأراحتني من أن أستقبل نهاري كل فجر بانفجار هزّ بغداد , وأباتشية اغتالت القيادي الفلاني في فلسطين , وقُتل.. وذُبح ..واجتُثت رأس فلان.. في بلادنا , وشب حريق.. وغرقت عبارة بمئات من ركابها , وسقطت طائرة ..وانهار مبنى ..في بلادنا , واعتقل خمسة ..وتم القبض على ثلاثة.. وقدم عشرون للقضاء بتهم الانتماء الى القاعدة أو منظمات ارهابية.. وكلهم ودائما من بلادنا

وصرح المسؤول العربي الفلاني بكذا , وقال الزعيم العربي الأوحد كذا , وحل كذا بصنعاء وكذا بطرابلس وبنغازي وبيروت ..وهلم جراً.. في بلادنا, وفي بلادنا فقط!!.

ولاتسلني هنا عن معنى "كذا" و"كذا" فكل معانيها في بطون الصحف وبين سطور برامجها المبثوثة في فضائياتنا العتيدة..الحريصة بإصرار على تقديم كتاب معينين الى المشاهد الذي يبتلع دماغه نفس الأسماء ونفس الكلمات ونفس الأفكار, فلاتكاد تفتح نفس الفضائية الا وتسمع اسم فلان بعينه والذي لاعمل له الا السباب والشتائم بحرية مابعدها حرية وراحة مابعدها راحة , يتردد اسمه وصوته على مسامعك آناء الليل وأطراف النهار تلميعا وتفخيما في البرامج الحوارية وفي البرامج التي تستعرض الصحافة وفي نشرات الأخبار وفي كل زاوية رأي ورأي آخر , وكأنه لايحسن الكلام والتفكير غير هؤلاء الأشخاص الذين لانكاد نعرف غيرهم والذين أصبحوا أبطالا قوميين ووطنيين يستقبلون في المطارات استقبال فاتحين عظماء يدخلون بوابات تاريخنا المعاصر القميء من ثقب إبرة اعلام يقدمهم لنا دون أن يقول لنا من أين جاؤوا والى من ينتمون ومن يدفع لهم حتى استطاعوا الاستمرار في وجه كل هذه الرياح التي هزت الجبال ولكنهم بقوا هناك, وياجبل مايهزك ريح على رأي أبا عمار !.

مالنا ... ارتحت وأراحتني ابنتي من همّ الاستيقاظ اليومي والبحلقة في الجوال وأنا أردد اللهم إني أعوذ بك من شر الجوال وشر ماسيأتيني فيه من أخبار بلادنا ..وكلما ارتفع صوت إنذار رسالة في الجوال هبّ أهل البيت اليه مذعورين و"أعوذ بالله" على الألسنة من مصيبة أو كارثة أو نازلة سوف يأتينا بخبرها , حتى مرّ علينا وقت كنا فيه على يقين من أن خبر وقوع الساعة ونزول عيسى سيأتينا من خلال الجوال , وبالطبع فإن ذلك سيكون قطعا في بلادنا , لأن عيسى لن ينزل في جنيف , وذلك على الرغم من أن فيلما أمريكيا كان قد عرض علينا خلال الجمعة الحزينة المنصرمة تصورا هوليوديا خاصا عن حياة سيدنا عيسى , وجعله بعد ذهابه الى السماء يعود بقدرة قادر ليظهر في .......سان فرانسيسكو !!, وكان "الزلمة" مرتديا كاوبوياً وقميصا مفتوحا ملونا بمربعات زرقاء وبيضاء ونعلا آخر موضة برباطات وكعب مناسب للرقص , وقد صفف شعره على الطريقة القرن واحد وعشرينية , وأخذ يتمايل في شوارع سان فرانسيسكو _حاضرة العالم اليوم _ وهو يجمع حوله أطفال الولايات المتحدة الأمريكية في مظاهرة فرح وبهجة ..ضرورات أمنية واقعية بالطبع ! إذ مالذي يمكن لعيسى هذا الهوليودي أن يفعل في موطنه؟ أزقة بيت لحم المحتلة أو حارات رفح المهدومة على رؤوس أهلها أو حقول جنين المصبوغة بالدم والجراح والأنين.

هذا الفيلم لاعلاقة له بالطبع بفيلم "آلام المسيح" لميل جيبسون , وهو الفيلم الأخير الذي أقام الدنيا وأقعدها بسبب مبالغاته الدموية غير المنطقية , وتجاوزه تصويرا وتمثيلا واخراجا أدنى درجة من الواقعية في وصف القدرة الانسانية على الصبر والتحمل , وهو ذات الفيلم الذي منع عرضه في دولنا الاسلامية التي وقد بذلت الجهود الجبارة لتربية الانسان العربي المسلم وبناء شخصيته وحماية كرامته وعقله وحقوقه, لم يبق فيها ولها كدول استثنائية من همّ ٍ الا محاربة الأفلام الثقافية منها على وجه الخصوص بالطبع , سهراً منقطع النظير من أجهزتها الأمنية والتربوية على عقيدة الأمة وأخلاقها وعقول أبنائها من كل داخل ودخيل ..غربي وغريب!!!.

الغريب..أن كلفة هذه الرسائل الاخبارية الجوالة لم تكن لتصل الى أكثر من دولارين في الشهر , بينما فاتورة هواتف الأسرة مجتمعة تصل أحيانا ودون مبالغة الى أكثر من ألف دولار , ولايسألن سائل لماذا أحسبها بالدولار وأنا مقيمة في أرض الأورو , أولا لأن لغة الدولار كلغة "سان فرانسيسكو" و"منع الأفلام" يفهمها العرب ودون مترجم , وثانيا لأننا نحن المزمنون هنا في أوربة , كأهلها , لم نعتد بعد الحساب بالأورو , ومازال الناس في كل بلد من البلاد الأوربية يحسبون بعملتهم النقدية الوطنية رغم اختفائها من الأسواق , ثم يحولون الحساب الى الأورو , حتى نستطيع التعايش مع الحالة الأوربية الجديدة المفروضة علينا رغم الأنوف , وأقول مفروضة ولاأتورع عن هذا , وفي نتائج الانتخابات الأوربية الأخيرة مصداقية قولي , حتى أن نسبة المشاركين في الانتخابات في مجمل الدول الأوربية الخمسة والعشرين لم تتجاوز الستة والعشرين بالمائة فقط.

العجيب..أن يضطر الصحفيون المساكين من أمثالي الى دفع الآلاف "فواتير" علاقات عامة واتصالات معلوماتية عبر القارات وبحث عن مصادر رزق سدت بعيد غزو العراق في وجهنا , حيث صار من ضرورات الاستمرار في العمل في بعض وسائل الاعلام العربية عدم سباب القيصر "البوش " ولاوزير خارجيته " الباول" ولاالحاكم بأمرهما في العراق "البول" , بل ولاأقول سبابه ولكن صار من الضروري وأثناء اعطاء أي تقرير يرد فيه اسم قيصرنا الموقر أن نقول رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن الأول , وسكرتير الادارة الأمريكية للعلاقات الخارجية عن الثاني , والحاكم المدني للعراق عن الثالث.

أكثر من ذلك صار يجب على الصحفي العربي المراسل أن يختار من الأخبار وفقط مايوافق الرؤية السياسية الخاصة عن الحال العربية الجديدة للاذاعة التي يعمل معها, وإذا كانت في ذلك الحين كل الصحف الاسبانية مجتمعة تكتب ضد غزو العراق , فان عليك كصحفي ومراسل هُمام يريد أن يعيش , أن تخترع من عند نفسك خبرا أو مقالا يدعم غزو العراق , أو أن تنتخب من بين خمسمئة مقال يكتب يوميا في اسبانية ضد الغزو المقال الوحيد الذي يدعم الغزو وهو بالطبع مقال مكتوب بيد كاتب يهودي مدسوس!.

و اذا كنت مراسلا لاذاعة عربية ثورية تقدمية!! , فعليك أن لاتسمي الرئيس الا باسم السيد الرئيس , وأن لاتتعرض اليه أو لسياسات البلد التي تعمل مراسلا لها بكلمة غمز ولالمز ولاازعاج ولااشارة من قريب أو بعيد بما يمكن أن يشير الى مايمكن أن يومئ بتمعر في تقريرك الصحفي لغبائه المفرط في بعض السياسات أو حماقاته منقطعة النظير في بعض التصريحات أو فضيحته وفضيحتنا في بعض المواقف ..عليك أن تقدم تقريرا , كل مافيه كذب ودجل وتمسيح جوخ , أو أن عليك أن تبقى مديونا بقية ماتبقى من عمر اقامتك في أوربة لمصلحة الهواتف _ خرب الله بيتها_ ,وذلك قبل أن يصدر بحقك بلاغ يقضي باخراجك من هذه الجنة الديمقراطية بحكم قوانين مكافحة الارهاب باعتبارك أحد المحرضين على الارهاب العالمي , والدليل ..كل مافي بيتك من لوحات أو صورة للكعبة أو للقدس أو كوفية تستعملها في التظاهر مقابل السفارة الاسرائيلية , أو كتب عن دون كيخوته أو "فقه السنة" للسيد سابق وربما "فتاوى ابن تيمية" , و"ألف عام من الوحدة" لغارثيا ماركيز ! أم هي مجرد مائة عام لكنها تبدو لي في غربتي هذه أقرب الى الألف! .

الدليل على دعمك المادي للارهاب معدوم , فمنذ الغزو أنت شبه عاطل عن العمل وليس لديك شيء تقدمه لأطفال رفح غير الكلام والبكاء والندب , نصف الاذاعات والفضائيات استغنت عن خدماتك بحجة الضغوط الخارجية , نصفها الآخر يستضيفك لتسب له السعودية , ولاأدري لماذا يستضيفونني أنا بالذات لأسب السعودية!!, وكأنني من الذين يقصرون في سباب من يستحق السباب , ولكنني لاأحب أن أسب أحدا بأجر مقبوضة , أنا من الذين يحبون أن يسبوا عندما يحلو لهم أن يسبوا, لاأن أستضاف في فضائية لكي أرغم وأحمل على سباب الآخرين!.

نصحني البعض بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر أن أعمد إلى مافي بيتي من أدلة دامغة على تورطي في الارهاب العالمي فأعدمها أو أحرقها , جلست في بيتي وأخذت أجيل النظر في كل ماحولي , الكتب , الأوراق , الفضائيات التي يستقبلها صحننا الهوائي , المصاحف , الصور والرسومات المعلقة على الجدران , أوراقي المبعثرة في كل مكان حتى في دروج المطبخ وصناديق السقيفة , جهاز الكومبيوتر وكل مافيه من محادثات وكلمات وأصوات وبصمات , ملابسنا , سيارتنا الصغيرة جدا ومافيها من أشرطة تسجيل تتحدث عن محمد الدرة والقدس التي تمد ذراعها ليعانقها بعض الذين نعشقهم , شكل أنف أولادي , خلايا أدمغتهم , هوى أفئدتهم , الذين نحبهم من اخواننا وأصدقائنا ويحبوننا , ماذا أغير؟ وماذا أتلف ؟!.. قلت لأبي الأولاد : يازلمة ..يبدو أننا يجب أن نحرق البيت بما فيه ومن فيه لنكون أبرياء من تهمة الارهاب .

لابد من وقفة جادة ضد هذا الذي يجري في طول العالم وعرضه , لابد من التجند المستميت لتوضيح الفرق الهائل والكبير والشاسع بين ماهو ارهابي وماهو وطني , لابد أن ينفر كل قلم عربي صادق ليبين هذا اللبس وهذا الغبن الواقع على الكفاح والنضال ضد الاستعمار والاستيطان , والانتفاض ضد الظلم واليأس والذل والغزو العسكري الارهابي الدولي الاستكباري العالمي المنظم.

الارهاب شيء والجهاد شيء آخر , ولاينبغي السكوت عن هذا الخلط الشنيع بين أحدهما والآخر , هذا الخلط المقصود المقنن المدروس , واسألوا وزير داخلية الكيان الصهيوني عندما زار مدريد بعيد تفجيرات قطاراتها , وراح بصفاقة ودناءة مابعدها دناءة يضع إكليلا من الزهور في محطة أتوتشا حيث جرت المذبحة الظالمة , متباكيا على ضحايا الارهاب الذي قال عنه : ان اسرائيل تعاني منه كما عانت منه اسبانية في آذار والحادي عشر منه!.

ماالذي جرني الى الكتابة عن الارهاب وهموم الصحافة ؟ وأنا التي جلست هاهنا اليوم أحتسي قهوتي الصباحية مبتهجة لهذه الموجة من البرد غير الطبيعي الذي زارنا في مدريد بعد أسبوعين من التقلب على نار حزيرانية بشرتنا بجهنم وبئس المصير الصيفي الذي ينتظرنا هذا العام , وجعلت أولادي يباشرون النق والندب مطالبين الوالد بتركيب مكيفات تقيهم بؤس فحيح لهيب الحر المدريدي .

كل مافي الأمر أنني كنت أريد أن أكتب شيئا بعيدا عن السياسة وهمومها قبل أن تسكن نسمات الصباح الباردة ويأتيني خبر ما عن بلادنا يعكر صفو نهاري هذا الذي استبشرت به خيرا , فمنذ زمن طويل وأزمان سحيقة لم أستقبل نهارا بنشرة أخبار خالية من ضرب وقتل وذبح , وانفجر ودمر وسحل , وجرح ولقي مصرعه الذي كان يبحث عنه كما يبدو منذ زمن .

يبدو أننا لانستطيع الحياة دون أن نكتب عن فلسطين والعراق في هذه الحقبة التي كتب علينا أن نعيش فيها كل هذا الحجم من القهر والذل والأسى , لابد أن نكتب عنهما حتى في يوم مثل هذا لم تستقبلنا فيه أخبارهما المفجعة , لابد أن نكتب عنهما حتى ونحن نريد أن نضحك ونعيش ونمارس الحياة وأن نهرب نحو أمل يهز أرواحنا بفجر جديد تشرق فيه شمس لطيفة تملأ صدورنا بعزم جديد على المضي في هذا الدرب مدللين من خلاله على تورطنا في دعم الجهاد والكفاح ومقارعة المستعمر , أو.......على وطنيتنا وصدق نوايانا!! واسألوا عن ذلك "نوال السعداوي"!._ وللحديث بقايا_