خواطر .. حول تعريب الطب

د . مصطفى عبد الرحمن

خواطر .. حول تعريب الطب

د . مصطفى عبد الرحمن

 لاأدري على وجه التحديد ، لماذا تجول في نفسي هذه الخواطر وتتجدد كل سنة ، عند حضوري لجلسات مؤتمر الاتحاد ( اتحاد الأطباء العرب في أوروبا )  ...  نعم ... فأنا أحب حضور المؤتمرات ، ولقد حضرت والله منها - حاضراً أو محاضراً - مالايمكن عده أواحصاؤه ، لكن كما تعلمون فأنا أعيش في الغرب المؤتمرات كانت كلها انكليزية اللغة أو لغتها فرنسية ، أما أن يكون المؤتمر عربي المحاضر والمحاضرة وفي قلب أوروبا ، فمنذ أن وليت وجهي شطر فرنسا مهاجراً من بلدي ، باحثا عن العلم ، ساعياً وراء التعلم ،لاهثاً خلف الطب ، قلما تتهيأ لي الفرصة أن أتذوق خلاصات الابحاث الطبية مصاغة برحيق اللغة العربية وعطرها ، إلا في مؤتمرات الاتحاد .

 

-2-

 

منذ عدة سنوات ... شاء الله لي أن أذهب الى احدى بلادنا العربية الخليجية الكبيرة ، وأن أعمل لمدة سنة تقريباً، وهالني والله ما رأيت عند حضوري للمؤتمرات الطبية واللقاءات الدورية والسهرات العلمية، تدخل القاعة ... فتشعر أنك قفزت فجأة الى لندن أو واشنطن !... فلغة المحاضرة انكليزية ‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟!... ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍والمحاضر الذي اسمه أحمد أو محمد أو عمر ، يحاضر بالانكليزية ؟!... وكذلك السائل ، الذي اسمه عبدالله أو محمود أو علي ، يسأل هو الآخر بالانكليزية ؟!... والغريب أنك قد لاتجد في القاعة أياً ممن اسمه جاك أو ميشيل من لندن ، ولا هنري أو باتريك من واشنطن ؟!... ومع ذلك فإن الانكليزية هي سيدة الموقف ، من بدء المحاضرة الى نهايتها ، ومن أول المؤتمر الى آخر كلمة فيه ، أي الى حين يفل القوم ويفض جمعهم ... واصارحكم القول انني ما عجبت كثيراً لورود التعابير الطبية بالانكليزية ، ولا أن يتقصد المحاضرالتلفظ بها بالانكليزية ، ولا أن تكتب النصوص المعروضة أيضاً هي الاخرى بالانكليزية ... فأنا أعلم أن كل الجامعات هناك تدرس بالانكليزية ، لكن الذي أدهشني ودفعني للتساؤل : لماذا يكون الكلام خارج التعابير الطبية ، أي (الحشو) بغير العربية ، بل ويتعمد أن يكون بالانكليزية ، في حين ليس لذلك أية حاجة مقنعة؟ !...

ولطالما تساءلت ... وتساءلت ، وناقشت وكلمت وسألت : ألا نستطيع ان نقيم مؤتمرات نتكلم فيها بالعربية ، مع احتفاظنا بالتعابير الطبية الانكليزية أوالفرنسية ، حتى ياذن الله سبحانه ويعرب الطب في كل بلادنا العربية؟...  لماذا الاصرار على التكلم مئة في المئة باللغة الانكليزية أو اللغة الفرنسية في كل مؤتمراتنا الطبية وفي جميع بلداننا العربية؟... لماذا يا قوم؟... سؤال أتركه في ضمير كل زملائنا القائمين على التعليم الطبي في جميع بلادنا العربية الحبيبة.

 

-3-

 

 في السنة الماضية ، قرر الاتحاد عقد مؤتمره في بلد عربي ولأول مرة منذ نشأته ، منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً ، وسأفاجئكم ان قلت لكم أن لغة المؤتمر كانت محل خلاف كبير هدد حتى امكانية عقد المؤتمر ؟!... فنحن الآتون من أوروبا ، نريد للغة العربية أن تكون هي وحدها سيدة المؤتمر ككل مؤتمرات الاتحاد السابقة الستة عشر، بينما أصر إخواننا وزملاؤنا في هذا البلد العربي الحبيب ، أصروا أن تبقى الانكليزية وحدها لغة المؤتمر!!!... وبعد لأي واخذ ورد ، قبلنا وقبلوا بالحل الوسط ، ان تكون اللغتان : الانكيزية .. والعربية ، لغتان رسميتان للمؤتمر !!!...

أنتم تعلمون ، ان الاتحاد ومنذ ولادته ، يقيم لقاءاته ومؤتمراته باللغة العربية ، وأين ؟ ... في العواصم الاوربية وبالتناوب بين باريس ولندن وبرلين وروما وغيرها ... وذلك ، بحضور اساتذة أوروبيين كبار من هذه العواصم الكبرى ، وبكل نجاح واستمرارية وتفهم وتشجيح واحترام وتقدير... لابل فعل - مأجوراً ان شاء الله -  أكثر من ذلك ، اذ أن مطبوعته الرسمية الدورية الفصلية وهي مجلة الطبيب العربي تصدر هي الأخرى رسمياً بالعربية ، ومتضمنة لبعض الابحاث باللغات الأوروبية الحية ، وأيضاً فهي تصدر كما تعلمون أيضاً من أوروبا .  

-4-

 

ثم كان أن جمعني لقاء  بزميل طبيب أتى من دولة عربية كبيرة ، وذلك خلال رحلة سياحية أثناء انعقاد احد المؤتمرات الطبية في احدى بلادنا العربية ، فعندما هم بالجلوس الى جانبي ، بدأني قائلاً good morning فاشطت غيظاً ... لكنني أجبت وببرود bonjour ، فتابع ... بعد أن استقر به الحال الى جانبي وهو طبعاً لم يفهم ما وراء جوابي how are you ?  فازددت حنقاً ورددت  وببرود أيضاً je vais bien ، فلم يفهم صاحبي شيئاً ... فاستيقظ من غفلته وقال : هل تفهم العربية ؟  فتنفست الصعداء وقلت : نعم ، وأردفت : والله انك تعلم أني أفهم العربية وأتكلمها جيداً ، فقد كنت في الصف الاول هذا الصباح  حين كنت اقدم ورقتي في المؤتمر ، وسمعت بأذنيك هذا اللغط الذي أثر ته في القاعة ، حين اصريت على ان اتكلم بالعربية ورفضت أن اتكلم بأية لغة أخرى رغم أني كتبت النص بالانكليزية لك ولأمثالك ، لكن الذي فاتك أن تسمعه على مايبدو، هو أني اتيت من باريس والتي أعيش فيها ومنذ قرابة العقدين من الزمن...

ثم دخلنا في نقاش عقيم – كالعادة - في قضية شائكة في ذهن من هو من أمثال صاحبنا هذا ، ألا وهي قضية تعريب الطب ، استغرق النقاش فيها طول الرحلة وعرضها ، ولم أستطع ان اقنع صاحبي بضرورة تعليم الطب بلغتنا العربية وامكانية ذلك ، رغم كل ما صرفته من جهد في الاقناع وحجة في الشواهد و...و...و...و.

 

-5-

 

لاادري لماذا نضطر - نحن العرب - لمناقشة كثير من البدهيات في كل امورنا ، فالحوار في البدهيات كما تعلمون مضيعة للوقت ، مستنفذ للهمم ، مثير للعصبيات ، مشجع على الأنانيات والحزازيات ... لكننا نضطر وبكل أسف دائما الى العودة الى التنبيه الى بدهيات لو عرضتها على أي صغير لم يبلغ الحلم ، ولم تؤثر فيه بعد معاول التغريب فتغير من سلوكه وتصرفاته ، لأفتاك فيها فتوىً تغنيك عن سؤال سواه.

ومن هذه البدهيات ،  هذه القضية التي نحن بصددها ، قضية تعريب كلياتنا ومعاهدنا وجامعاتنا ، ومن باب أولى البدء بتعريب الطب ، لأن أجدادنا من الأطباء كانوا من المبدعين والعباقرة ، فصدروا الى العالم المتخلف في زمانهم طبنا وبلغتنا الحبيبة ، حتى انتشر واشتهر ، ثم أتى هؤلاء القوم فزادوا في أساساته وبنوا على هيكله، واضافوا على سعته ، ولكن كل منهم بلغته ولغته فقط ، حتى وصل الطب وكذلك كثير من العلوم الحية ، الى المستوى العالي الرفيع الذي نجده اليوم ، بينما نقف نحن اليوم عاجزين حتى من نقله ومن جديد الى أجيالنا بلغتنا العربية الحية ، كي تعاود أجيالنا الابداع من جديد وبلغتها الأم لا بلغات مستوردة من بلاد العم سام أو موروثة من عهود استعمار أحفاد شارلمان .

 

-6-

 

 قدر الله لي ، وكذلك لكل من درس الطب في سوريا ، أن نرشف الطب باللغة العربية على مقاعد مدرجات كلية الطب في جامعة دمشق ، هذه الكلية العريقة والتي كانت يوماً من الايام ، معهدا صغيرا للطب ، انشيء منذ فترة طويلة تعود الى بدايات القرن المنصرم ، ثم نمى هذا المعهد وشب وكبر ، حتى أصبح كلية بعيد الاستقلال ، ثم نضجت هذه الكلية ، وفرخت لها كليات اخرى في حلب وحمص واللاذقية .

أتعلمون ما هو وجه البراعة في هذه الكلية ، والتي كانت يوماً معهداً صغيراً ؟ ... ستقولون : القدم ... نعم انه القدم ، لكن هناك أمراً آخر، يزيده روعة وأصالة وقوة ، وهو أنه ومنذ مولده ، كان يدرس الطب باللغة العربية، وعندما أصبح هذا المعهد كلية ، نشطت فيها حركة تعريب قوية في أواخر الاربعينيات من القرن هذا الذي مضى ،هذه الحركة من التعريب قامت عل أكتاف فطاحل في الطب ، ونوابغ في العربية  ، وعباقرة في التعليم ، كان منهم على سبيل المثال : الاستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط ( وهو والد نابغة الشام : الدكتور محمد هيثم الخياط حفظه الله ، كما يحلو لشيخ الشام ، الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أن يسميه ، وهو فعلا، عبقرية فذة ونابغة حقة ، تذوقنا في محاضراته روائع البحوث الطبية ، في الكيمياء المرضية والمناعيات ، مصاغة بروعة اللغة العربية) .

وكان مع الاستاذ أحمد حمدي الخياط ، أستاذ فذ آخر ، كان عبقرية نادرة في الطب السريري ، وموسوعة بلاحدود في الطب الداخلي ، وعلماً رفيعاً من أعلام العربية ، هذا الخليط والذي كان يجمعه رجل واحد اسمه الاستاذ الدكتور حسني سبح ، جعل منه بحراً من العلم ، ولذلك كان يقال ومن باب الدعابة العلمية : العلم بحر ...  وفيه حسني سبح ، وأمد الله في عمر الرجل ، وزيد في أجله ، حتى بلغ المائة سنة أو أكثر ، وكان يرى وهو في أخريات أيامه ، في عيادته المتواضعة في دمشق ، يمارس طبه .

ومع هذين الاستاذين الجليلين ، كانت هناك ثلة من الاساتذة العظام ، على أكتافهم جميعاً ، تعرب الطب في سورية ، ونما وترعرع وما زال يزهو بثوب قشيب فريد ، ليس له مثيل في أي من بلادنا العربية الاخرى.

 

-7-

 

واعذروني ... فأنا لاأدري  مالذي يدفعني في كل مرة الى التفكير في هذه القضية والعودة الى هذا الموضوع ؟ ... موضوع تعريب الطب ... ولا لماذا يقفز هذا الموضوع الى ذهني من حين لآخر ؟... حتى أنه أحياناً والله يسيطر على كل كياني ، ويشغل حيز كل تفكيري ، ويسلب – شهد الله – من عيني أحيانا أخرى حلاوة النوم وطيب الرقاد !... وأنا لست بالاستاذ الجامعي ولا بالمسؤول السياسي ولاحتى بفقيه من فقهاء العربية أوصنديد من صناديدها ... لكنني يا أخوتي أنا عربي الهوى ، عربي القلب ، عربي اللسان ... تذوقت حلاوة هذه اللغة الحبيبة في أيات القرآن ، وأحاديث سيد الخلق والأنام ، ثم كان أن تعلمت بها طب القلوب والأبدان والانسان ... ولهذا عشقتها أيما عشق ... وأحببتها حباً لم تنازعها عليه أية لغة أخرى ... وبالأمس حين أتيت الى فرنسا وتعلمت لغتها - وللشهادة لغتها جميلة وهذا حق -  ولكنني لم أجد أنها تعادل نصف حلاوة لغتنا ولاحتى ربعه ولاعشره ولاأقل من ذلك .

يا قومي ... ان لغتنا هي من أقدم اللغات وأقواها ، وأكثرها قدرة على التكيف والاشتقاق والابدع ، ثم هي لغتكم لغة ثلاثمائة مليون من العرب تتكلمونها ليل نهار ، وتستمعون لها في اذاعاتكم وتلفازاتكم ، وتقرؤونها في صحفكم ومجلاتكم ، وتعلمونها أبناءكم في مدارسكم وثانوياتكم ، ثم هي لغة ثانية لمليار من المسلمين هم اخوانكم في شرق الأرض وغربها ، ثم هي واحدة من خمس لغات حية معترف بها في الأمم المتحدة لاتشكل الألمانية واحدة منها ، ثم هي والله من أحلى لغات الأرض ان لم تكن أحلاها على الإطلاق ، وأكثرها جمالاً وعذوبة وطراوة ونقاوة وموسيقية.

يا قومي ... أما آن الأوان أن تنزلوها منزلتها ومكانتها التي تستحق ،  فتعيدون لها كرامتها المسلوبة ، وتعودون بها الى جامعاتكم وكلياتكم ومعاهدكم ؟... بعد أن طال بها الزمن وقسى عليها الدهر وعاشت قروناً ، كليلة خجولة مستترة خارج أسوار جامعاتكم وكلياتكم ومعاهدكم  ؟ ...

انتهى