1425
بقلم : نوال السباعي / مدريد
لم يشكل هذا الرقم أية اشكالية للكثير منا , ولم يقف كثيرون عنده مجرد وقفة تفكير أو حساب , هذا الرقم اليتيم المضيع الذي يمثل حساب تقويم حياة , وتاريخ أمة تنزف قهرا وهي تبدو – وأقول تبدو – وكأنها في نزعها الأخير. عجبت أن يُحتفل في بعض دول العالم الغربي ببداية العام الصيني الجديد , وأن تنقل كل قنوات الاعلام الغربية أنباء احتفال اليهود بعامهم العبري , وكذلك جميع أمم الأرض , وليس إلا عامنا الذي يحيي ذكرى حادثة الهجرة التي يسجل التاريخ - تاريخ خصومنا – بأنها الأكثر أهمية في تاريخ
البشرية جمعاء . تاريخنا الذي ملّ منا ومللنا منه , والذي أصبحنا اليوم عبئا عليه , متطفلون على موائد الآخرين , نحتفل بأعوامهم , نقلد اختراعاتهم المقدسة- التجارية , ندخل قرونهم التي تبدأ وتنتهي بغزو أرضنا وانتهاك عرضنا ودك حصوننا !.
هل نحن أمة ميتة ؟! أصبحنا عالة على عالم يمور بالحياة والحركة ونحن جاثمون على كنوز الأرض نستمد منها آخر سبب للتشبث بالوجود بين أمم الارض اليوم ؟ .
اجراء مقارنة سريعة وشاملة بين حجم الاهتمام العربي الاعلامي العام بالعام الميلادي
والعام الهجري , تنبئنا عن درجة الوهن الحضاري التي نعيشها اليوم , وعن الهوة
الساحقة التي سقط فيها معظم الذين نصبوا أنفسهم ناطقين باسم هذه الأمة وهم يحاولون
ارتداء عباآت الآخرين متخلين عن هوية أمتهم وبصماتها وشكل أنفها وربما لونها وجنسها
!, أحيانا أفكر في "مايكل جاكسون" الذي لم يكن راضيا عن نفسه ولاشكله ولالونه ,
فبقي يغير ويبدل في كيانه الانساني ماديا ومعنويا حتى صار أعجوبة ومثلة بين الناس
جميعا وسقط شر سقطة في مهاوي تاريخ الاعلام الذي لايرحم أحدا.
في مستهل هذا العام الهجري الجديد الضائع بين أعوام الآخرين التي نسبنا أنفسنا إليها وبكينا عند وداعها وانتحبنا على فراقها واحتفلنا مع المحتفلين بها , في مستهل هذا العام نحن بحاجة حقيقية للوقوف وقفة تأمل هادئة فيم آلت اليه أحوال هذه الأمة , وهل ننتمي الى هذه الأمة ؟ وهل مازلنا نريد الانتماء اليها؟ وماهي شروط ومقومات هذا الانتماء ؟ وقبل ذلك وبعده إننا في حاجة ماسة الى تحديد هوية هذه الأمة اليوم في مطلع القرن الواحد والعشرين الميلادي الذي بدأ ولادته بأحداث هائلة هزت العالم ومازالت وهي على علاقة وثيقة بهذه الأمة التي بلغت اليوم 1425 عاما وهي ماتزال في ريعان شبابها , يشهد على ذلك احتلالها لصدر الأحداث الأهم والأخطر في حياة البشرية اليوم سلبا أو ايجابا , وتشهد على ذلك كل إحصائيات أعداد الشباب والمواليد فيها , وتشهد على ذلك الأعداد غير الطبيعية من المقبلين على الاستشراق والاستعراب والاسلام في مختلف أنحاء العالم , وتشهد على ذلك مع كل هذه الشواهد مؤشرات أسواق العملات وأسعار البترول والغاز الطبيعي في العالم.
أمة شابة ولكنها لاتتمع بالشباب فحسب بل تتمتع بحيوية هي موضع حسد التاريخ وحقد الجغرافيا وانتقام الأدب والفن والثقافة , حية على الرغم من سيادة ثقافة الموت بين شبابها , حية على الرغم من انتشار اليأس والاحباط بين صفوف الناس المحرومة من أدنى درجات الخدمات الانسانية في حياتهم , حية على الرغم من الاستبداد الذي ينتشر أفقيا وعموديا أي بالطول والعرض في جميع شرائح وجودها السياسي والاجتماعي والأسري , أمة حية قائمة تتحدى وتصارع الموت في كل مكان يصر الموت على الزحف فيه اليها .
حية على الرغم من السرطان الذي أصاب قلبها , حية على الرغم من اجتماع الأكلة الى قصعاتها , حية على الرغم من الوهن والهوان اللذان يلفانها.
اسألوا ريم الرياشي عن هذه الأمة ؟ اسألوا كتائب الأقصى عن هذه الأمة ؟ اسألوا حناجر فرقة الاعتصام عنها , اسألوا فتيات وشباب الجاليات العربية والاسلامية المولودين في الغربة وهم يهتفون في عواصم العالم بالروح بالدم نفديك ياأقصى , اسألوا المسجد الحرام يلم ويجمع العشاق من كل فج عميق أتوه يجددون ولاءهم لهذه الأمة وهذا التاريخ , اسألوا رمضان المُصر عاما بعد عام على إثبات نظريته الخاصة عن وجود هذه الأمة وشبابها وحياتها وحيويتها وقدرتها على البقاء والثبات والاستمرار .
اسألوا كل صوت حر نظيف طاهر يغني للأمل على الرغم من اليأس , اسألوا كل قلم مقاتل بالكلمات في زمن عواء الذئاب الجريحة ترابط على مداخل أوكارها تحمي صغارها بصدورها وتمنعهم من الموت صقيعا.
اسألوا "ياسين" الطفل المغربي الصغير بسنواته الستة والذي ولد وعاش كل حياته في مدريد و الذي ذهب يحاول فتح باب بيته ذات فجر وقد حمل حقيبته على ظهره بعد أن حشى فيها أشياءه الخاصة , فلما أن هبت أمه من نومها فزعة وسألته الى أين أنت ذاهب ياياسين : قال الى القدس , أسأعد أطفالها في رمي الحجارة!.
اسألوا عبد الرحمن السوري الذي عندما سألته المعلمة في مدرسته في جزر الكناري بسنواته الثمانية عن بلده وعاصمتها ورئيسها أجابها : أنا من بلاد العرب وعاصمتها القدس ورئيسنا حسن نصر الله وشيخنا القرضاوي!.
اسألوا محمدا الليبي ذو الثمانية عشرة عاما عن اصراره على ارتداء ملابسه الوطنية يوم العيد في مدريد ثباتا على هويته وانتمائه , اسألوا كل مصري ولبناني وعراقي وسعودي ويمني وصومالي عن هذه الأمة وعن تاريخها وعن حياتها وحيويتها , لتجدوا لحمة وسدة زاخرة بالحياة والارادة والأمل .
1425 عاما من الحياة ومن القدرة الهائلة على التجديد الذاتي وابتلاع الغرباء , 1425 من التاريخ بحلوه ومره براياته البيضاء وأيامه السوداء , تاريخ اسألوا عنه ابن كثير الدمشقي واقرؤوه مرارا وتكرارا حتى تعرفوا هوية هذه الأمة التي حشرها البعض ستين عاما في متاهات الشعارات وادعاآت الثورات وركوب الموجات وقمع الشعوب وشنق الأحرار وسجن كل من سولت له نفسه قول كلمة يعتقدها حقا أو همزة أو لمزة يخفف بها عن نفسه عناء القهر أو نكتتة يحلي بها مرارة أيام الصبر .
1425 عاما من الهجرة المستمرة نحو الغد , نحو المستقبل , نحو العطاء , نحو التغيير , هجرات هائلة أحدثت في حياة البشرية انقلابات انسانية وحضارية بالغة التأثير , وذلك على الرغم من وهننا الحضاري في بعض الأحيان وتعبنا وارتكاسننا وتنكبنا عن حمل الرسالة حينا , واستسلامنا لمن تفرعن علينا أحيانا .
1425 عاما لاتعني الكثير في حياة الوجود التي تحسب بآلاف الملايين من الأعوتم ولكنها على غاية من الأهمية في تاريخ الوجود الحضاري الانساني الذي تركت فيه هذه الأمة بصماتها واضحة على كل شيء في هذه الحياة وفي حياة الانسانية اليوم وذلك على الرغم من تعطش الانسانية الى هذه اليد التي لم تعرف منها الا بصمتها الحضارية , تعطشها الى التعرف عليها , الى كشف الزيف عن التشويه اللاحق بها , تعطشها الى الخير ينصبّ منها ينبوع عطاء لاينضب .
انه عام هجري جديد يأتينا في زمن محنة وقهر واحتلال وسقوط , سقطت بغداد , وتسقط الحواري والشوارع المؤدية الى القدس , وسقطت الشعارات التي حكمتنا بالحديد والدم والنار ستين عاما , سقط الثوار والرفاق , وانكشفت الأقنعة عن كل الوجوه الرجعية والتقدمية والفوقية والتحتية , واكتشفنا ضياع أموال الأمة وضياع قرن من حياة الأمة وضياع الهدف الرئيسي من وجود هذه الأمة , ونحن نعيش اليوم أعلى مرتبة من مراتب انتشار صحوة هذه الأمة على هامش انتفاضة أهل الرباط في فلسطين المقدسة , وصدقوني إن هذه الصحوة المتعطشة الى قيادة وترشيد وتوجيه , وتلك الانتفاضة المقدسة الموصولة بحبل من الله وحبل من قلوب المؤمنين بهذه الأمة , صدقوني ان هذه الصحوة وهذه الانتفاضة هما أكبر علامة فارقة اليوم لهذه الأمة , لوجودها , وحيويتها , وقدرتها على البعث والنشور والوقوف على قدميها مرة أخرى من جديد , لتثبت للتاريخ أنها أمة لايمكن أن تموت هذا مايقوله التاريخ وهذا مايؤكده الانسان وهذا مايخيف الآخرين الذين لانكرههم ولانريد أن نكرهم وليست لدينا القدرة على كراهيتهم , كل مافي الأمر أنهم أتونا غازين وذهبنا اليهم مهاجرين , دعموا قتلة أنبيائنا وأطفالنا في القدس فذهب منا اليهم من أرهبهم وهز كيانهم , حوار أليم ونزاع لن تنهيه قوة الجيوش ولااستكبار القوة في الارض , حوار بين 1425 عاما من حضارة قاهرة بالكلمة والحق وثبات الانسان وقدرته المذهلة على التغلب على ثقافة حب الموت لأنه وحده الذي ينتمي الى أمة طالما طلبت الموت لتوهب لها الحياة.