إهداء الكتب

إهداء الكتب

بقلم: فاضل السباعي

 يتعرّض المؤلفون لمطالبات من أصدقائهم ومعارفهم بقصد استهدائهم كتبهم. وهكذا، فإن المؤلف كلما أصدر كتاباً جديداً، لم يعدم أن يرى، في اليوم الواحد، صديقاً واحداً على الأقل، يُعاتبه ببشاشة:- إيه أستاذ! قرأنا أنه صدر لك كتاب جديد... أما تتذكرنا بنسخة منه؟ أين راحت الصداقة؟

يتعرّض المؤلفون لمطالبات من أصدقائهم ومعارفهم بقصد استهدائهم كتبهم. وهكذا، فإن المؤلف كلما أصدر كتاباً جديداً، لم يعدم أن يرى، في اليوم الواحد، صديقاً واحداً على الأقل، يُعاتبه ببشاشة:

- إيه أستاذ! قرأنا أنه صدر لك كتاب جديد... أما تتذكرنا بنسخة منه؟ أين راحت الصداقة؟

وعبثاً تحاول، أحياناً، أن تبين لأصدقائك الخلّص أن كتابك هذا، أنت لا تملك النسخ المطبوعة منه، بل يملكها شخص آخر يُسمى  "الناشر"، وأنك تشتري منه ما تحتاج إليه من نسخ!

بعض الأصدقاء يتساءلون غير مصدقين:

- أتشتري من كتاب أنت ألفته؟!!

- نعم، نعم.

- ولكنه كتابك، كتابك أنت!

- يا أخي! الكتاب مكوَّن من أفكار، ومن ورق. فأمّا الأفكار فهي مني، وأما الورق وأجرة الطبع والتجليد، فقد موَّلها الناشر.

تظن، بعد هذا الشرح، أن صاحبك قد أسقط في يده.

- ولكن... أما يعطيك الناشر نسخاً من كتابك هدية؟

- بلى، عشر نسخ، خمساً وعشرين، خمسين، حسب الاتفاق. وأما أن يعطيني، ويظل يعطيني.

المشكلة في الإهداء، أنه باب ينفتح على المؤلف، ثم يعجز المؤلف، أو يخجل أن يسدّه. تقول لدى إصدارك كتاباً جديداً:

- في هذه المرة، سأقبض يدي، ولن أرخي الحبل على الغارب، ففي الكتاب السابق "تقاضيت" ربع مكافأتي نسخاً استجررتها منه على الحساب! وقد تشجعك على الأخذ بهذا التصميم، زوجتك، التي تشاركك هموم الأدب، إبداعاً ونشراً وربحاً:

- ... فالمكافأة (كما قد تقول لك) إن دخلت البيت مبلغاً يُعين الأسرة على الشدائد، أفضل من أن تتسرب كتباً تهديها إلى.. كل من هبَّ ودبّ!.

والعجيب، أن من تُهديه كتاباً مرة، تجد نفسك "ملزماً" بأن تتابع" إهداءه كل جديد يصدر لك، وربما طالبك بالقديم الذي صدر:

- يُسعدني أن تكون مجموعة كتبك كاملة عندي!

وقد تضيق بإلحاح صديق قد انعدمت "الكلفة" بينك وبينه، تهيب به:

- وبعد، يا عزيزي، متى تبدأ بشراء كتبي من السوق؟

فيجيبك، والبسمة تزهر على شفتيه:

- ولكني أريدها ممهورة بتوقيعك؟

- إبتني بأي كتاب من كتبي، وأنا أمهره لك!

فتراه يعض بنواجذه على شفتيه قائلاً، وقد اعتقد أنه أفحمك حتى ما تستطيع رداً عليه:

- وهل ترضى أن تكتب عبارة إهداء على كتاب أنت لم تقدّمه هديّة؟

- يا أخي، أنت تطلب توقيعي، وأنا أوقع تحت عبارة لن تكون –اطمئن- عبارة "إهداء" بل عبارة.. للذكرى!

ولكنه لا يصمت بعد هذا، بل يقول:

- لا لا.. نسخة تحمل إهداءك أحلى!

بعض المهدى إليهم لا يكتمون فرحتهم بما تقدم لهم، وبخاصة الشباب والجنس الآخر، وإن من هؤلاء من ترى فرحه بعبارة الإهداء أعظم من فرحته بأنه حظي بكتاب دون ثمن، وهؤلاء هم الصادقون.

ولكن ثمة غيرهم لا يعيرون أي اهتمام لأن تكتب وتوقع، أو لا تكتب ولا توقع، مرة، سحب أحدهم الكتاب من تحت يدي وقد أشرعت القلم وهو يقول:

- معليش، أستاذ لا تتعب نفسك!!

طيب، بم أفسّر فعلته: أهي سذاجة منه؟ أم أنه ينوي إهداء الكتاب إلى "حبيبته" أم تراه سيمضي به تواً ليبيعه بنصف الثمن أو ربعه وربما عُشره، إلى باعة الكتب على الرصيف؟!!

وبعض أصدقائك ومعارفك، لا يكتفون بأن يستهدوك كتبك، بل قد يطالبونك بمزيد منها..

- ولماذا؟؟

- نريد أن نهديها إلى أصدقائنا!

- ألا ترون أن هذا يكلفني غالياً؟

- ولكننا نقوم بالدعاية لك!!

فتقول في نفسك: يا حبيبي!

والأطرف من هذا وذاك، إذا كان لك أولاد، وكانوا يقدّرون الأدب ويعتزون "بالكاتب الألمعي" والدهم! أن لهذا التقدير والاعتزاز ضريبة، أن يغترفوا من بحر كتب أبيهم، ويقدموها هدية إلى معلميهم..

وإذا قدّم أحد الأولاد إلى معلم له، جديد، كتاباً، غارت منه أخته، فأرادت أن تقدم كتاباً آخر إلى معلمتها، التي سبق أن قدّمت لها كتاباً أول..

وذلك كله يهون، ولكن الأدهى أن يتسلّط أولادك على كتبك، ويأخذوا في إهدائها إلى... رفاقهم!

فئة أخرى من المستهدين هم القراء المتأدبون، هؤلاء يشمون رائحتك من سفر سنة.. يقبلون عليك، ويُشيدون بأدبك "الرائع" وبكتبك التي بحثوا عنها في المكتبات فما وجدوها، وهم يريدون أن.. يكتبوا عنها..

فتبسط يدك، وتسخو..

حتى إذا أخذوا الهدية، لم تعد ترى وجوههم، ونادراً ما تقرأ شيئاً كتبوه عنك، وأحياناً تقرأ.. فإذا هو مجموعة من "الشتائم الأدبية" المنتقاة!

*  *  *

وليس يسوغ لي –وأنا أقدم حديثي هذا بين الجد والمزاح- أن أكتم أن إهداء الكتب ينفع أحياناً.. ولماذا النكران؟

كثيراً ما سهّل موظفون –يتبيّن لي أنهم من قرائي- مصلحة لي في دائرة رسمية.. فأهديهم بعدها ما تيسّر، فتنعقد بيني وبينهم أواصر متينة..

وحتى الموظفون الذين لم يسمعوا باسمي، إذا رأوا بين يدي كتاباً من تأليفي، أسرعوا يُبدون عجبهم وإعجابهم، مذللين لي الصعوبات، مزيلين العوائق، وكلما أتممت طباعة كتاب في بيروت، وكررت عائداً إلى الوطن، محملاً بهدايا للأسرة، مما هو مسموح باجتيازه الحدود، وما قد يراه الموظف مستوجب "الترسيم" (دفع الرسوم الجمركية) حملتُ معي، أيضاً، نسخاً من كتبي.. إن رجال الجمارك، ما إن يعرفوا أن مؤلف الكتاب هو نفسه صاحب الحقيبة الذي يقف أمامهم، حتى يرحبوا به ترحيباً يتراوح بين المتوسط والعالي، حسب ميول الموظف الأدبية، وغالباً ما يعفونني من التفتيش.. وأحياناً يعفون السيارة كلها!!

صديق لي (شاعر، روائي قصصي للأطفال، صحفي، ناقد) وهو بعد ذلك كله خفيف الظل، يُسمِّي الكتب، في هذه الحالة، "عدة الغش" قياساً على "عدة الشغل":

مرة، رأيته في الطريق يُغذّ السير مستعجلاً، وفي يده محفظته "الدبلوماسية". سألته:

- إلى أين؟

أجاب:

- إلى "فلان الفلاني"..

- وزير الـ... ما غيره؟

- نعم، إن لي "شغلة" عنده، عادلة، آمل أن يقضيها، وموعدي معه الآن..

- وما في هذه المحفظة، التي أراك تنوء بحملها؟

- "عدة الغش"!

صادفته بعد حين:

- وكيف كانت المقابلة؟

أجاب بثقة:

- ولو! قُضي الأمر على الوجه المناسب، إن "بخور" الأدب قاطع، لا يخيب..