مع الحجيج

أحمد جمال

ما تحركت أفواجُ الحجيج تؤمُّ الأرض المباركة النقاء وقد حثّت المطيَّ لبلوغ البيت العتيق يحدوها الحادي بصوتٍ فطري خاشع رخيم يرسلُ أناشيدَ الشوق وآهات المحبة والحنين تنساب على الكثبان أو في جنبات الوديان وقد تراءت في حدائه صور المشاعر العظام واشرأبّت خلاله ذكريات الأيام الخوالي أيام العز والأمجاد، وطفحت معاني القُرب والإيمان - إلا وجب القلب واضطرمت نار الحشا، وتعالت الأنفاسُ وتسارعت حتى لكـأن  اللقاءَ المهيبَ الحبيب كائن أو أن يكون، فازدحمت مشاعر وصور مخزونة تراكمت على مر الأيام والسنين، كل منها يريد أن يسبق غيره في نشوةٍ ظاهرة ليعلن عن نفسه ويُفصح عما يعتلج داخله من ولهٍ وحب.

أية نسمات هذه التي تهبُّ في هذه الأيام، حقاً ما تحركت أفواج الحجيج رجالاً وعلى كل ضامر جاؤوا من كل فج عميق، تستفزهم آمالٌ وتجذبهم تطلعات وأمنيات- إلا اضطرب القلب المدنف اضطراب جناح القطا محلّقاً في جو السماء وثارت لواعج نفسٍ طالما أقامت على ترقب ذلك اليوم الأثير.

لكِ الله أيتها النفس المشوقة، ما فاتها قطّ رفقة الركبان وصحبة هاتيك القوافل البيض المترعة بالحنين، وهي تقطع المهامه والقِفار تصعدُ شرفاً وتهبط وادياً، ميممة شطر مهبط الوحي ومنبع النور، إلا شقّ أنين اللوعة والشوق.. حجب النفس، وحطّم حواجز الكتمان، فإذا بالأنات العذبة ممزوجةً بالدموع الحرّى تبوح بالسر، وتكشف المخبوء، وتُهدي القلب ألحانَ حب وأنغام سكينة، تَطامَنُ لها نيران اللوعة إلى أمد وحين.

سبحان من أودع في كل قلب ما أشغله، ولك الحمد يا ربنا أن وجهتَ قلوبنا إليك وإلى محبة بيتك الحرام وشعائرك المهيبة الحسان حتى علق القلب بها فلا يريد أن يبرحها ولا يطيق عنها بُعداً أو فكاكاً.

وكيف لا يكون الأمر هكذا وقد توجّه قِدماً أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام بدعوةٍ شقّت عنان السماء فأصابت سويداء القلوب المؤمنة وحلّت منها محلَّ الرغبة والرضى، ألم يقل ربُّنا تباركت أسماؤه يحكي هذه الدعوة الصادقة الممتدة عبر القرون (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) وهل يردُّ الله سبحانه دعوةَ خليله في توجيهه القلوب وهويّها إلى بيته الحرام؟ إنه من أجل هذه الدعوة المنطلقة من قلب الخليل والتي تفتحت لها مصاريع السماء، وأبواب القلوب الحيّة، وغدت قرآناً يُتلى إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها، من أجل هذه الدعوة لا تزال القلوب اليقظى منجذبة إلى تلك البقاع، إنها دعوة لا تنمحي بل لا تخمد ولا تبرد مهما تطاول الزمان وأوغل في المستقبل الآتي، ولا يزال نور هذه الدعوة يقوى ويسطع يوماً بعد يوم متجلياً بتلك الملايين المشدودة إلى أرض الحجاز المتلهفة لرؤية البيت العتيق، والوصول إلى ذلك الوادي غير ذي الزرع إلا أنه طافح بالمشاهد والآثار والنور والضياء.

نعم يا سيدي يا أبا الأنبياء: إن القلوب تهوي إلى بؤرة النور كما دعوتَ وأردت كأنما يربطها بهذا البيت صلة نسب أو وشيجة رحم، فتراها في كنفه مستظلة بظله متفيئة أفياءه، وقد تضلعت من سُقيا الطمأنينة القراح، وأنست لشآبيب الرحمة تنهمر انهماراً وتنصبّ انصباباً، وإذا بهذه القلوب الخاشعة المنيبة تموج في بحار الرحمة الطامية حول البيت متسربلة أجسادها التي خَفَتَ صوتها، وضعُفت حقيقتها أمام سطوة الأرواح المنطلقة المحلقة عالياً وراء هذه العوالم الكثيفة.

ما أجمل الإنسان عندما يتخفف من أثقاله ويحطّم قيود الكثافة والحس، وتنعتق روحه من أسرها فيحلّق بعيداً بعيداً إلى عوالم لا تراها عيون الأجساد لكن للأرواح اللطيفة فيها ميدان رحب فسيح، وجولات بديعة رفيعة.. وما أقسى القلوب التي لا تحن ولا تطمح إلى غذائها المصفى، وعالمها الآسر وأي جفاءٍ وغفلة تغلّفان قلباً تظلّه هذه الأيام ثم لا يكون له في ميدان النور مسرح ومطرح ولا من لواعج الشوق نصيب وشأن.

سبحان الله ما أحلى بطاح مكة والمدينة، وما هذا الجمال الذي تبديه والجلال الذي توحيه فلا يبصره إلا من كان له قلب حي بصير.

أليس على هذه الأرض المباركة وُلد الحبيب عليه وآله الصلاة والسلام؟ ثم ألم يشرق نور الوحي ليبدد ظلام الدنيا من غار حراء في جنبات مكة، من ذلك الغار الساكن الوديع المطل على البيت الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ليكون ذلك الوحيُ أثمن هدية إلى البشرية، وليصبح سيدنا محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام خاتم المرسلين وصاحب أعظم رسالة وأخلدها.

طبت يا أرض الذكريات، يا أرض مكة وطيبة.. فهنا دعا صلى الله عليه وسلم الناس وعلّمهم، وهنا أوذي في الله فرضي وصبر، ومضى غير خائف ولا متردد. وهنا طاف وسعى وهنا دعا ربه وناجاه، وهنا مشى وخطب ووعظ. وهنا جاهد وحضّ على الجهاد.. هنا جلس في ظل نخلة أو ظل جدار، وهنا سارت الناقة وههنا وقفت وبركت، وههنا جلس مع الصحب الكرام أو عمل معهم. ولئن أعاق الأشباح عن الوصول إلى أرض الحبيب عوائق وسدود فإن الأرواح تحطم السدود وتجتاز العوائق إنها هناك لا يقدر على منعها مخلوق، تهيم مع الهائمين، وتقبل الركن والباب والحصى والتراب. ولله درّ من قال:

رعى اللهُ أياماً تقضّتْ بطيبةٍ    وحيّـا ليالٍ مـا عرفتُ لها قدرا

ليالي وصالٍ لو تُباع شَريتُها    بروحي ولكنْ لا تُباع ولا تُشرى

فنسألك اللهم أن تبلغنا حج بيتك وزيارة نبيك هذا العام وكلّ عام يا خير من سُئل وأكرمَ من أجاب، إنك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.