فلسفة الدعاء عند النورسي

أديب إبراهيم الدباغ

فلسفة الدُّعاء 

عند النورسي

أديب إبراهيم الدباغ

1ـ أهمية الدعاء في أوقات الشدائد والمحن

وعلى الرغم من الأهمية الكبرى للدعاء والتضرع في تقوية الجانب الإيماني والسلوكي للإنسان المسلم، إلاَّ أن الاهتمام به ظلَّ طوال القرن المنصرم غائباً عن أقلام رجال الفكر والدعوة، ولم يحتل من أساسيات اهتماماتهم إلاّ مساحات ضيقة لا تكاد تذكر.. 

وهذا أمر يثير الاستغراب حقاً، فعلى الرغم من حاجة المسلمين الملحة لاستمداد القوة والعون من الله تعالى بالدُّعاء والتضرع لتقوية عزائمهم وتنشيط مقاومتهم للمحن والشدائد التي واجهتهم خلال القرن المنصرم، إلاّ أن ذلك لم يكن حافزاً للإلتفات إلى هذا الجانب المهم من إخلاص العبودية لله، وإخلاص الدعاء والضراعة إليه.. ولا يذهَبنّ الوهم بأحد فيظنّ أننا ندعو المسلمين إلى مواجهة التحديات بالدعاء والتضرع ولا شيء غيرهما، فهذا ما لا يمكن أن يقول به عاقل، وما نريد قوله: إنّه لا بد من الدعاء والتضرع واللجوء إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب لا قبلها، كما هي سنته صلى الله عليه وسلم  في كلّ ما واجهه من التحديات في طريق الدعوة. [1]

ثم إنَّ إحياء سنّة من سنن رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه تكاد تُنْسَى في هذا العصر ولا يُلْتَفَتُ إليها إلاَّ نادراً، واجبُّ إيماني يؤجر عليه صاحبه أعظم الأجر، فالدعاء والتضرع من أوكد سننه، وإحياؤها وتجديدها عمل إيماني كبير الأهمية.

وقد أسهم "النورسي" إلى حد كبير في إحياء هذه السنةَّ الشريفة، وذلك بتوجهه كليةً إلى رحمه ربّه، وبزيادة تضرعاته إليه، ورجاء العون منه، والاستناد إليه في أموره كلها، فأسكرتْ أناشيدُ وَجْدِهِ الآذان، وسحرتْ القلوب، وغدا بحقٍّ غِرِّ يْدَ الناطقين بالقرآن، وَهَزَارَ المنشدين بآلاء الرحمن، فصارَ قدوةً لتلامذته فهم يفتتحون كل يوم جديد من أيام حياتهم بمنهج تضرعي إلى الله، ليُعِبئوا جهازهم الروحي بالطاقة اللاّزمة لتوليد القوى الإيمانية التي يحتاجونها وهم يمارسون أعمالهم اليومية.

 

2 ـ النورسي بين الرجاء والخوف

و"النورسي" روح عظيم غائص في فيض من الحب الإلهي الأبدي، وفي الوقت نفسه مترعٌ بشجن حزين من شعور غريب بالتقصير في عبوديته لله تعالى، فعاش حياته بين رجاء وخوف، يسيطران عليه، ويوجهان حركاته وسكناته، ويقودان فكره وقلمه، ويتركان آثارهما على تهجداته وعباداته وتسبيحاته، فقارئ رسائله يتنسم في أجوائها نفحات كنفحات روض عاطر، غير أنه ينتابه شعور بأنه إزاء إنسان حزين يكتم حزنه، وخزين الآم يخفى آلامه، وموطن أشجان يستر أشجانه، ومع هذا يلمس من خلال السطور شخصية رجل قوي الروح، شديد القلب، صلب العود، قادر على الارتفاع فوق آلام العالم بأسرها، وأوجاع البشرية جمعاء، إذا اقتضت ذلك خدمة الإيمان والقرآن اللّذين أوقف حياته ووجوده عليهما. وعظمة "النورسي" من عظمة ما كان يشغل ذهنه من اهتمامات، ويؤرقه من أفكار، فذهنه مشغول بالإنسان خليفة الله في أرضه، وأبدع مصنوعاته، وأكرم خليقته، وجوهر كونه، وموئل أسمائه الحسنى وصفاته، وهي المشاغل نفسها التي كانت تشغل أذهان الأنبياء والرسل وتؤرق تفكيرهم، فالآخرة هي نقطة المركز في أديانهم، والمحور الذي تدور عليه دعوتهم وتعاليمهم، والحصول على الخلود في الآخرة مقرونةً بالرضى الإلهي، هو مطلب أذكارهم وتضرعاتهم وأدعيتهم.

-3- دروس الإيمان

فأدعيته وتضرعاته يمكن درجها ضِمْنَ ما كان يمليه على تلامذته من دروس الإيمان، بل هي اعظم دروسه الإيمانية، ولعنصر الضراعة فيها تعلو لتلامس سماء الرحمة الإلهية، ثمَّ تهبط لتلامس سماء القلب البشري أينما كان على هذه الأرض، لِتملأَ الأرواحَ بطاقات إيمانية يمكن أن تصبح مع الزمن خزيناً تأخذ منه الروح ما يساعدها على الثبات في أوقات الآلام والأزمات. وهو يستنطق القرآن ويصغي من خلال آياته إلى ضراعات الأنبياء والمرسلين، وجنس الإنسان عموماً، وذلك للمشاكلة والمجانسة ـ على الأقل ـ بين دوافع آلآمه وآلامهم، فآلامه ليست بأقلَّ من سواها تبريحاً، فلجأ من الآم الدنيا وأوجاعها إلى ركن {حسبنا الله ونعم الوكيل}(آل عمران:173) . وها هو يقول في المرتبة النورية الحسبية الثانية من مجموعة "الشعاعات" ما يأتي:

"إنه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُردت من كل شئ هاجمني أرباب الدنيا بجواسيسهم وبدسائسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:

إن جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبّل اليدين.. أوَ ليس له - أي لي - من نقطة استناد؟..

فراجعت آية (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فأعلمتني:

إنك تستند بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة.."

ثم يمضي قائلاً:

"فما دمتَ قد ظفرتَ بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيماني، يمكنك إذن الاستناد والاعتماد إلى قوة عظيمة وقدرة مطلقة. وحقاً لقد كنتُ أحسّ بقوة معنوية هائلة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت أشعر أنني أملك من الاقتدار الإيماني ما يمكّنني من أن أتحدّى بها جميع أعدائي في العالم وليس الماثلين أمامي وحدهم، لذا ردّدْتُ من أعماق روحي: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) "[2].


[1] الأخذ بالأسباب دعاء فعلي كما يرى "النورسي" .

[2]  الشعاعات ص 43-74