حقيقة النصر ومعانيه

د . فواز القـاسم / سورية

قال تعالى في كتابه المبين : بسم الله الرحمن الرحيم (( قُتِلَ أصحابُ الأخدودِ ، النَّارِ ذات الوقودِ ، إذْ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) البروج ( 4_7 ). صدق الله العظيم .

هذه الآيات هي من سورة البروج ،وهي من السور المكيّة ،التي تُعنى بعرض حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإسلامي ، وتهتمُّ ببناء القاعدة الصلبة من المؤمنين ، الذين يقوم على أكتافهم بناء الدين ، والدفاع عن المباديء .

وهي تحكي قصة مجموعة من المؤمنين السابقين ، الذين ابتلوا بأعداء كفرة حاقدين ، وطغاة مجرمين ، أرادوهم على ترك عقيدتهم ، والتخلّي عن مبادئهم ، فأبوا ذلك ، واعتصموا بعقيدتهم ، واستمسكوا بمبادئهم ، فحفر لهم الطغاة أخدوداً ، وأوقدوا فيه النيران ، ثم قذفوهم فيها ، على مرأى ومسمع من الجموع المحتشدة ، التي ساقها الطغاة بالقوة ، لتشهد فصول تلك المذبحة الرهيبة ، وبمثل تلك الدرجة من الوحشية والساديّة ، وانعدام أية أثرة من خلق إنساني ، أو ضمير بشري ، وبدون أي ذنب اقترفه المؤمنون ، اللهم إلا ( ذنب ) التمسك بالمباديء ، والدفاع عن العقيدة ...!!!

وربَّ سائل يسأل : ترى ، مالذي يمكن أن تفعله حفنة من المؤمنين ، أمام جيوش الطغاة الجرارة ، وقواتهم المدجّجة بالسلاح .!؟

وما هي النتيجة التي يمكن أن تتمخّض عن صمود مجموعة من المؤمنين ، واستبسالهم عن مبادئهم ، واستشهادهم من أجل عقيدتهم .!؟

وللإجابة عن مثل هذا التساؤل الهام نقول :

إن النصر الحقيقي ، هو في تمسك أصحاب العقائد بعقائدهم ، ودفاعهم عن قيمهم ، وتضحيتهم من أجل مبادئهم ، ولقد تكفّل الله تعالى ، بتحقيق النصر لعباده المؤمنين ، على أعدائهم الكافرين ، فقال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( إنا لننصرُ رسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ، ولهم سوء الدار )) غافر ( 52).

وإذا جاء الوعد من الله المقتدر ، فلا شك أنه حاصل لا محالة ، ولكنَّ الناس يقيسون بظواهر الأمور ، ويغفلون عن جوهرها وحقيقتها ، أو يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيّز محدود من المكان ، وهي بلا شك مقاييس بشرية قاصرة .!

فأما المقياس الإلهي ، فهو مقياس شامل ، يعرض القضية الإيمانية في رقعتها الفسيحة ، الممتدّة على مديات الزمان والمكان .

ولو نظرنا إلى القضية الإيمانية بهذه السعة ، وهذا الشمول ، لرأينا أنها قد انتصرت في النهاية من دون أدنى شك ، فلقد خاض الإيمان مع الشرك _ منذ فجر البشرية إلى اليوم _ جولات وجولات ، كانت الغلبة في النهاية لصالح التوحيد والإيمان على حساب الشرك وعبادة الأوثان ، ولعلّ في سقوط الشيوعية مؤخراً ، وانتهاء أنظمتها إلى الإفلاس والمجاعة ، لخير دليل على ذلك .!

هذا من جهة ... ومن جهة أخرى ، فإن الناس يقصرون معنى النصر على صور حسيّة معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم ، ولكنَّ صور النصر في ميزان الله كثيرة ومتعددة ، وقد يتلبَّس بعضها بصور الهزيمة عند أصحاب النظرة السطحية المحدودة ..

فخليل الله إبراهيم عليه السلام ، كان قد انتصر _ في ميزان الله _ وهو يُلقى في نار النمرود ، لأنه كان قد ثبت على عقيدته ، ولم يتنازل عن مبادئه ..

وأصحاب الأخدود ، الذين سبقت الإشارة إليهم ، كانوا قد انتصروا أيضاً ، وهم يُلقَون في نار الطغاة ، لأنهم كانوا قد تمسَّكوا بدينهم ، وضحّوا من أجل عقيدتهم ومبادئهم .

والحسين بن علي ( رض ) ، كان قد انتصر ، بالرغم من استشهاده ، وما كان لألف خطبة ، وألف قصيدة أن تنصر قضيّته ، كما نصرتها قطرات الدم المهراق من جسده الطاهر فوق تراب كربلاء ..

على أن صورة النصر الحسيّة المعروفة للناس ، لم تكن بعيدة _في ميزان الله أيضاً _ عن أهل الإيمان والمباديء ، فلقد انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على جاهلية العرب الأولى ، نصراً مؤزّراً ، فسحق المشركين ، واقتلع الشرك من جزيرة العرب ، ثم خرجت جحافل المسلمين ، فانساحت شرقاً حتى وطئت بحوافر خيلها تربة الصين ، وغرباً ، حتى خاضت بتلك الحوافر في مياه الأطلسي .!!!

وهناك اعتبار آخر ، تجدر مراعاته كذلك ، وهو أن وعد الله قائم للرسل والذين أمنوا ، بسم الله الرحمن الرحيم (( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا )) صدق الله العظيم .

فلا بدَّ _ إذاً _ أن توجد حقيقة الإيمان في نفوس الذين يتطلّعون إلى نصر الله ، وهي لا توجد ، إلا حين تتخلص القلوب من كل مؤثر غير حب الله ، والإخلاص لدينه ، والعمل الجاد لنصرة شريعته ومبادئه .

فإذا ما استقرّت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ، وانعكست آثارها على سلوكهم وواقعهم ، فليبشروا عند ذلك بنصر الله الذي لا يتخلّف عن القوم المؤمنين ، تحقيقاً لوعد الله وعهده ، والله لا يخلف الميعاد .

بسم الله الرحمن الرحيم (( وكان حقَّاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم ..