سلاماً ياليل " دربند " !

أديب ابراهيم الدباغ

سلاماً ياليل " دربند " !

أديب ابراهيم الدباغ

ـ 1 ـ

سلاماً ياليل "دربند".. سُقيتَ الرَّوح والريحان.. ورويتَ الودَّ والنّحنان.. يا ظلَّ الكون على أَكْبُدِنا الحَرَّى .. ويا فَيْءَ الزمن على أفئدتنا العطشى .. طال دربنا .. كلَّتْ أقدامنا .. استوحشت أرواحنا وآدتْ قلوبنا حتّى التقيناك، فإذا بحادي الركب يهتف بنا: هنا نَحُطُّ رِحَالَ العشق، وننصب خيام الهوى.. تحـت جـنح هذا الليـل  المضمخ بأريج الصحاب [1]، والمعطّر بِمِسْكِ دمائهم، والنّديّ بندى  أرواحهم، والمترع بنور إيمانهم ..!

ناغِنَا.. سامِرْ قلوبنا.. تعطّفْ علينا.. آنِسْ غُرْبَتَنَا.. دَعنا نستظلُّ بظلك.. ونتفيأ بَرْدَ فيئك.. تدّفقْ حناناً علينا.. تساكبْ لطفاً فوقنا.. تَوَاجَدْ عشقاً نحونا.. نحن أحفاد أولئك الراقدين تحت سمائك الناشرين الطّيبَ في أنحائك..!

ـ 2 ـ

ياليل "دربند" لا تخشى ظمأً بعد اليوم.. فبدموع الوَجْدِ مِنَّا سنسقي صحاراك الظامئات، ونروي زهراتِكَ المصوحات.. وبأنين التائبين النادمين منا ستظلك سحائب الرحمة وتتنـزل عليك لطائف الودّ، وبهتاف المحبين المحترقين بحبيهم ستتفتح أبواب السماء وتهبط عليك الرحمات وتغشاك السكينة، أبداً لن تجفُّ مِنَّا العبرات.. لله نحزن.. وله نسكب الدمع.. وإليه نجأر بالدعاء.. وعلى أعتابه نمرّغ الوجوه.. ويذوب مِنَّا الوجود.. وعلى "باب الأبواب" نرابط نحمي "كلمة الله" من الضياع ونصونها بالمهج والأرواح..!

ـ 3 ـ

يا " باب الأبواب " [2] ما اكثر ما اصطرعت عليك شعوب، والتحمت من أجلك أقوام، وسالت على بابك دماء.. والتقت من خلالك أديانٌ وحضارات.. كلُّ شئ فيك تاريخ ناطق أو إشارات الى تاريخ.. التراب.. الأحجار.. الصخور.. القبور.. القلاع.. الحصون.. البحر.. الجبل.. الأرض.. السماء.. بل الانسان نفسه، إنه تاريخ متحرك من مجموعة أخلاط عجيبة من الأقوام والشعوب واللغات والأوطان انصهرت كلّها في أتون الزمن فَتَخَلّقَ منها إنسان جديد هو خلاصة مصطفاة من هذه الأخلاط والأمشاج !

ـ 4 ـ

على أعتاب " باب الأبواب " تُسْكَبُ العبراتُ.. وتذوب النفس حسرات.. ويتمزق القلب حزناً وأسىً.. على هذا الباب صُلِبَ الإيمان مرةً ولكنه لم يَمُتْ.. تناوشته سهام الكفر فأثخنه الجراحُ ولكنه لم يمتْ.. جرّعوهُ الصّابَ والعَلقَمَ فتهاوى مُدْنفاً ولكنه لم يمت.. حاصروه.. حرَّقوا كتابه.. سجروا به تناينر حقدهم لكنه ظلَّ حياً في القلوب ولم يمت.. لأنه حياة أقوى من كل حياة.. وحياة فوق كل حياة..!

ـ 5 ـ

يا ابن " دربند " في أَغوار روحك يسكن تاريخ أرضك.. روحهُ المعذَّبَةُ مسكوبةٌ في روحك.. إنه يغورُ بكل الآمه في أعماقك.. يخصب حياتك لكنه يلونها بالأسى.. يشكل عقلك لكنه يثقله بالهمّ.. لايَمُدُّكَ إلاَّ بمرارات تجاربه، ولا يمنحك إلاّ دموية حكمته..!

تحرَّرْ من صغوطه عليك.. إنسلخ عنه.. عِشْ خارجه.. ارتفع فوقه.. أُسْمُ عليه.. أسْمُ وارقَ حتى تلامس سماواتِ القرآن.. هناك التمس لك تاريخاً لا يُبْليهِ الزمنُ.. ولا يُعَتّقُه القِدَمُ.. ولا يلتهمه العدم.. هو للروح بهجة لا تنقضي.. وللقلب عبدٌ لا يحولُ ولا يزول..!


[1]  هم شهداء الصحابة الأربعين الراقدين فوق روابي " دربند "( داغستان).

[2]  تسمي كتب التراث مدينة "دربند" بـ " باب الأبواب" وربما لأهميتها وكونها الباب الذي يدلف منه القادمون من أوربا الى آسيا الوسطى وبالعكس/ انظر معجم البلدان لياقوت الحموي.