المروءة

د. عثمان قدري مكانسي

د. عثمان قدري مكانسي

لو سألنا أنفسنا ما المروءة وما سماتها؟ أجابنا العارفون:

هي حلية النفس، وزينة الهمم، ومراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجّه إليها ذمُّ باستحقاق.

وقال بعضهم: هي تعاطي المرء ما يُستحسن، وتجنب ما يُسترذل، وصيانة النفس عن الأدنـاس، أو مـا  يشين عند الناس، وهي آداب نفسانية تحمل مراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، وهي مبدأ لصدور الأفعال الجميلة التي يمدحها العقل، ويرتاح لها القلب.

وعلى هذا نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته، ووجبت أخوّته".

وقال أحد الحكماء: من شرائط المروءة أن يتعفف صاحبها عن الحرام، ويعرض عن الآثام، وينصف في الحكم، ويكف عن الظلم، ولا يطمع فيما لا يستحق، ولا يتسطيل على من لا يسترقّ، ولا يعين قوياً على ضعيف، ولا يؤثر دَنِيّاً على شريف، لا يُسرَّ ما يعقبه الوزر والإثم، ولا يفعل ما يقبحُ الذكرَ والاسم.

وسئل أحد الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة فقال:

العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل.

وصاحب المروءة لا يتوصل إليها إلا بالمعاناة ولا يكون من أهلها إلا بالمثابرة والمشقة، فليس ينقاد إليها مع ثقل كلفها إلا من سهلت عليه المشاق رغبة في الحمد، وهانت عليه الملاذ حذراً من الذم، ولذلك قيل: سيّد القوم أحملهم للمشقة. وفيه قال أبو تمام الطائي.

والحمدُ شهد لا يُرى مشتاره(1)       يـجنيه إلا من  نـقيع الحنظل

غُـلٌّ(2) لحامله، ويحسبه الذي       لم يَؤهِ (3) عاتقَهُ خفيفَ المحمل

وقد لحظ المتنبي المعنى نفسه فقال:

لولا المشقة ساد الناس كلهمُ     الجودُ يفقر، والإقدام قتّال

وقال كذلك:

وإذا كانت النفوس كباراً       تعبت في مرادها الأجسام

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً شرف علو الهمة داعياً إليها: "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره دنيَّها وسفسافها".

وقال أحد الحكماء: الهمّة راية المجد، وقال غيره: علوُّ الهمم بذر النعم.

وقال أحد العلماء: إذا طلب رجلان أمراً ظفر به أعظمهما مروءة.

وقال أحد المؤدبين: ما أكثر من يعرف الحق ولا يطيعه، وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة، أما من يطلب المروءة بهمة دنيّة كان أحمق، ومن ادّعاها دون استحقاق لم يعرف نفسه، وضيّع قدره،. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هلك امرؤ عرف قدره".

 وقال المنذر الرقاشي:

إن المروءة ليس يدركها امرؤ     ورث المكارم عن أب فأضاعها

أمَرَتْه نفسٌ بالـدناءة والـخنا     ونـهته عن سبل العلا فأطاعها

فإذا أصاب مـن  المكارم خَلّةً    يبني الكريمُ بها المكارمَ بـاعها

ولصاحب المروءة المتصف بها شرطان:

الأول: شرط المروءة في نفسه.

والثاني: شرط المروءة في غيره.

1 - أما في نفسه فبعد أن يلتزم ما أوجبه الشرع من أحكامه فيكون عليه أن يلتزم بثلاثة أمور (العفة والنزاهة والصيانة).

أولها العفة: أ- وهي العفة عن المحارم من ضبط للفرج، وكف للسان عن الأعراض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"

"مَنْ وُقيَ شرَّ ذَبْذَبهِ، ولقلقِه، وقَبْقَبِهِ فقد وقي"(4).

وقال صلى الله عليه وسلم كذلك: "أحبُ العفاف إلى الله تعالى عفاف الفرج والبطن".

 وقال أنوشروان: الكامل المروءة من حصّن دينه ووصل رحمه وأكرم إخوانه.

وقال حكيم: من أحبَ المكارم اجتنب المحارم.

وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما:

الموتُ خير من ركوب العار     والعارُ خير من دخول النار

والله من هذا وهذا جاري

ب - ومن العفة عدم الوقوع في المآثم، كالغيبة، والنميمة والسعاية، والسب والشتم، وفضول الكلام، والركون لشهوة والظلم والخيانة، والبغي على الناس، وقطع الرحم، وما شابه ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن غِرُّ كريم، والفاجر خِبُّ لئيم.

وقال مخاطباً علياً رضي الله عنه: "يا علي اتق دعوة المظلوم.."

وقيل في منثور الحكم: ويل للظالم من يوم المظالم. . ومن يَخُن يَهُن.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً والصدقة مغرماً".

ثانيها: النزاهة عن

أ - المطامع الدنيّة فهي ذل ولؤم تدفع المروءة بعيداً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طَبع"

وقال أحد الشعراء:

لا تخضعن  لمخلوق على طمع     فإن ذلك نقص منك في الدين

واسترزق الله مما في خـزائنه     فـإنما هو بين الكاف والنون

والباعث عن الطمع الشره وقلة الأنفة.

وحَسْم هذه المطامع شيئان: اليأس مما في أيدي الناس. والقناعة بما في يديك. قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم إبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله تعالى فإن الله عز وجل لا يُدْرك ما عنده إلا بطاعته".

ب - مواقف الريبة، وهي التردد بين منزلتي حمدٍ وذمٍ، وسلامة وسقم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يَريبك إلا ما لا يَريبك".

وقال أحدهم: المروءة أن لا تعمل في السر عملاً تخجل منه في العلانية. ومن استعمل الحذر، ولم يقف مواقف الريب، ومظان التهم، وموقف الاعتذار، ولم يشك، ولم يقدح، فقد سلم.

ثالثها الصيانة للنفس في:

أ - العمل على كفايتها الذاتية وعدم التذلل للآخرين وقد قيل: كلب جوّال خير من أسد رابض. ويطلب كفايتها بـ:

1 - الحلال والوجوه المباحة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يعجبك رجل كسب مالاً من غير حلّه، فإن أنفق لم يقبل منه، وإن أمسكه فهو زاده إلى النار.

2 - طلب الحلال من أحسن وجوهه، لا يلحقه فيها غض، ويصون به العرض، ويرضي به الرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه".

3 - التدبير وحسن التقدير، فلا إسراف ولا تبذير، ولا بخل ولا تقتير، ولزوم القناعة... قال أحد الحكماء: اشتر ماء وجهك بالقناعة.

ب - عدم الاستعانة بالآخرين: فالمنة استرقاق للأحرار، ومن ثقّل على الناس هان عليهم. وقال علي لابن الحسن رضي الله عنهما يوصيه: يا بني إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، ولا تكن عبدَ غيرك، وقد جعلك الله حراً.

وقال أحدهم:

من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه     وأخو الحـوائج  وجهُهُ مملول

وأخوك من وفّرْتَ مـا في كيسه     فـإذا عبثت بـه فأنت ثقيـل

2 - أما في غيره من شروط المروءة فهي ثلاثة (المؤازرة، المياسرة، الإفضال)

أولها المؤازرة (المعاونة) فهي نوعان:

1 - الإسعاف بالجاه، وهو أسهل المكارم وأرخصها، ويكون من الأعلى قدراً والأنفذ أمراً، وببذله يكثر الأنصار والمشايعون والأتباع، وبكفه ينقص وينحسر. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلق عيال الله وأحب خلق الله إليه أحسنهم صنيعاً إلى عياله". وقال أحد الحكماء: اجعل زمان رخائك عدة لزمان بلائك. وقال أحدهم: اصنع الخير عند إمكانه يبق لك حمده عند زواله.

ولا ينبغي لحامل الجاه أن يستثقل المعونة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"من عظمت نعمة الله تعالى عليه عظمت مؤونة الناس عليه".

وعليه أن يتجنب المنّ والتسخّط حتى لا تتعرض تلك النعمة للزوال.

2 - الإسعاف في النوائب فالأيام حبلى تكد كل غادر، وكلَّ غائرة، وكل نائبة. وللمعين أجره وثوابه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيرُ من الخير معطيه، وشرُّ من الشر فاعله".

والإسعاف واجبُ: للأهل والإخوان والجيران، وحقهم عليه كبير.

           وتبرعُ: لغير هؤلاء من البعداء وقد قال الشاعر:

حـقٌ على السيّد المرجـو نـائلهُ     والمستجار به في العرب والعجم

أن لا ينيل الأقاصي صوب راحته     حتى  يخص به الأدنى من الخدم(5)

إن الفرات وإن جاشت غـواربـه    روّى الـسواحل ثم امتدّ في الأمم(6)

ثانيها المياسرة وهي نوعان:

1- العفو عن الهفوات: لأن الإنسان خلق من عجل، وناقصُ يقع في الزلل، وليس هناك مبرأ من الأخطاء. وقالت الحكماء: لا صديق لمن أراد صديقاً لا عيب فيه، وقال بشار بن برد في المعنى نفسه:

ومن ذا الذي ترضى سجايـاه كـلُّها   كفى الـمرءَ نـبلاً أن تُعدَّ معايبه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى    ظمئت  وأي الناس تصفو مشاربه

فـعش واحـداً أو صـل أخاك فإنه   مـقارف ذنـب تـارة ومـجانبه

إذا كـنت في كـل الأمور مـعاتباً    صـديقك لـم تلق الذي لا  تعاتبه

وقال أنوشروانَ حين سئل هل من أحد لا عيب فيه؟: من لا موت له.

وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخط لنا طريقاً رائعاً في معاملة الناس فيقول: "إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض".

إلا أن الأخطاء قد تكون صغائر وكبائر.

أما الصغائر: فهذه مغفورة وهي التي يسميها القرآن الكريم "اللمم".

وقال العلماء: من هجر أخاه من غير ذنب كان كمن حصد في غير أوانه.

وأما الكبائر: فلا ينبغي هجر صاحبها إلا بعد اليأس من صلاحه: فمن حق الصديق أن تحمل له ثلاثاً: ظلم الغضب. وظلم الدالة، وظلم الهفوة.

وأخطأ فتى، فقام عمه ليؤدبه ويسيء به فقال له: يا عم: إني قد أسأت وليس معي عقلي فلا تُسئ بي ومعك عقلك..

وقال أبو نواس:

لم أؤاخذك إذ جنيت لأني     واثق منك بالإخاء الصحيح

فجميلُ العدوِّ ليس  جميلاً     وقبيح الصديق غـير قبيح

أما م تعمد الخطأ، واستحكمت شحناؤه، وكان لئيم الطبع، أو تغيّر عليك، وجفاك بعد أخوةٍ، فتركه سريعاً أولى. وقد قال أحد الحكماء: رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس، وزهدك فيمن يرغب فيك صغر همة.

وقال بزر جمهره: من تغير عليك فدعه حيث كان قبل معرفته.

وقال الشاعر:

صِلْ من دنا وتناسَ  مَنْ بَعُدا     لا تُكرهنَّ على الهوى أحدا

قـد أكثرت حـوّاء إذ ولدت     فـإذا جفا ولدٌ فـخذ وَلـدا

لكنَّ من اعتذر وأقرَّ بذنبه فقبول عذره أوجب.

2 - المسامحة في الحقوق يؤنس الموحشَ، ويقرب النافر، ويبعد المشاحنةَ، ويرفع المقدار. قال أحد الحكماء: من عاشر إخوانه، بالمسامحة دامت له مودتهم، وقال أحد الأدباء: إذا أخذت عفو القلوب زكا رَيعك، وإن استقصيت أكدَيْت. وقد تكون الحقوق في المال، وقد تكون في المكانة، فالتواضع والتخلي أدعى إلى صفاء القلوب وستر العيوب، واستقطاب الناس، وحبهم.

ثالثها: الإفضال وهو نوعان:

1 - إفضال الاصطناع، فإما أن تردَّ لصاحب فضل فضله، وهذا هو الشكر بعينه. وإما أن تتألف به قلوب أناس أو تصلح علائق معهم، وبكليهما يُكتسب الود، وتزول الحواجز، وترتفع الكلفة، وتفتح الأسرار، ويكثر الأتباع والأصدقاء.. قال الشاعر:

من جمع المال ولم يجدْ به     وتـرك المال لعام جدبه

هان على الناس هوان كلبه

وقال الشاعر الموصلي:

يـبقى الثـناء وتذهب الأموال    ولـكل دهـر دولة ورجالُ

ما نال محمدة الرجال  وشكرهم    إلا الـجواد بماله، المفضالُ

أما إذا لم يكن المال موجوداً فكيف يكون الاصطناع؟ إنه بالجاه والرفق والمواساة.

قال المتنبي:

لا خيل عندك تهديها ولا مال    فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ

والناس تعرف من يملك المال، فلا ترضى إلا به، وتعرف ذا الجاه فتشفع به، ولا يقنعهم القول دون الفعل.

2 - إفضال الاستكفاف.. فذو الفضل لا يعدم جاهلاً أو حاسداً أو معانداً أو سفيهاً فإن أعرض عنهم أكثروا من إيذائه، وإن داراهم ودفع بلاءهم حمى عرضه، وحمى نعمته. وقد رويَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ما وقى به المرء عرضه فهو صدقه".

وقالت عائشة رضي الله عنها: ذبوا بأموالكم عن أحسابكم.

ويستحسن لذلك أن يكون بمقدار يرضي فيه المسيء دون أن يجرّئه عليه.

والكلامُ اللطيف والأدب الجم والبعدُ عن الهوى يكف الثرثارين الباحثين عن المساوئ، ويبطل مكرهم.

والله أعلم.

 

الهوامش:

1- الاشتيار: استخراج العسل من الخلية واسم الفاعل مشتلر.

2- غل: الطوق الذي يجعل في عنق المجوس أو المجرمين.

3- لم يوه: من وهى يهي: لم يضعف.

4- الذبذب الفرج، واللقلق اللسان، والقبقب البطن.

5- صوب الراحه: كناية عن العطاء والجود، فالصوب : المطر. والراحة اليَدُ.

6- جاشت : فاضت، غوارب الماء: أعالي أمواجه.