الحياء
د. عثمان قدري مكانسي
قال الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين:
اعلم أنّ الخير والشرّ معان كامنة، تُعرف بسمات دالة، كما قالت العرب في أمثالها: "تخبر عن مجهوله مرآتُه".
فسمة الخير الدعة والحياء، وسمة الشرّ القحة والبِذاء، وكفى بالحياء خيراً أن يكون على الخير دليلاً، وكفى بالقحة والبذاء شراً أن يكونا إلى الشر سبيلاً.
وروى حسان بن عطيّة عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء والعيُّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق".
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الحياء من الإيمان والإيمان من الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار".
وقال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم يرَ الناس عيبه. وقال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغَرْس بمائه.
وقد أحسن الشاعر صالح عبد القدوس حين قال:
إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حياؤه ولا خير في وجه إذا قلَّ ماؤه
حياءَك فاحفظه عليك وإنما يدل على فعل الكريـم حياؤه
وليس لمن سُلبَ الحياءَ صادٌّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور، فهو يقدِمُ على ما يشاء، ويأتي ما يهوى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"إن مما أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى، يا ابن آدم إذا لم تستحي فاصنع ما شئت".
وليس هذا القول إغراءً بفعل المعاصي عند قلة الحياء، كما توهّمه بعض من جَهل معاني الكلام، وإنما يفسّره الشاعر بقوله:
إذا لم تخش عاقبة الليالـي ولم تستحْيِ فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحـياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العُود ما بقي اللـحاء
وقال أحد العلماء في معنى هذا الحديث: إن من لا يستحي دعاه ترك الحياء إلى أن يعمل ما يشاء، لا يردعه رادع، فليستح المرءُ فإن الحياء يردعه.
وأحسَنَ أبو بكر الرازي حين قال: إذا عُرضتْ عليك أفعالك التي هممت بفعلها فلم تستحْيِ منها لحسنها وجمالها، فاصنع ما شئت مكنها، فجعل الحياء حَكَماًَ على الشريف لأنه جاء على معنى الذم لا الأمر.
والحياء خلق يمنع صاحبه عن كل ما يُستقبح، وله فضائل كثيرة وكبيرة، منها:
1 – أنّه شعبة عظيمة من شعب الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" فأفرده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالذكر لبيان فضله وعظيم منزلته.
2 – أنه خلق الإسلام العظيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل دين خُلُقاً، وخُلُقُ الإسلام الحياء" فجعل الحياء سمة بارزة أصيلة في هذا الدين العظيم.
3 – أنه زين لصاحبه، فيه الكمال، وقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه أنس رضي الله عنه عن رسول اله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه".
4 – أن الحياء لا يأتي إلا بخير، وهذا ما رأيناه في الحديث الشريف الذي ذكرناه قبل قليل: ".. إذا لم تستحْيِ فاصنع ما شئت" وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه:
أحدها حياؤه من الله تعالى.
ثانيها: حياؤه من الناس.
ثالثها: حياؤه من نفسه.
1 – فأما حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره. وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله عزّ وجل حقَّ الحياء" فقيل يا رسول الله، فكيف نستحيي من الله عز وجل حقّ الحياء؟ قال:
"أ – من حفظَ الرأس وما وعى – ب – والبطنَ وما حوى – ج – وترك زينة الحياة الدنيا – د – وذكر الموت والبلى، فقد استحيا من الله عز وجل حقّ الحياء".
وقال علقمة بن علاثة: يا رسول الله عظني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استح من الله تعالى استحياءَك من ذوي المهابة من قومك" وهذا الحياء من قوة الدين، وصحة اليقين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قلّة الحياء كفر" يعني قلة الحياء من الله تعالى لما فيه من مخالفة أوامره. وقال صلى الله عليه وسلم: "الحياء نظام الإيمان، فإذا انحلَّ نظام الشيء تبدد ما فيه وتفرّق".
2 – وأما حياؤه من الناس فيكون بكف الأذى، وترك المجاهرة بالقبيح. وقد رُوي عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: "من تقوى الله اتقاء الناس" وروي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس وقال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" وذلك لقلّة مروءته وظهور شهوته.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى اله عليه وسلم قال:
"إن مروءة الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه ومجلسُه وإلفه وجليسه".
قال بشار بن برد:
ولقد أصرف الفؤاد عن الشي ء حياءً وحبّـُه في السـواد
أُمسكُ النفسَ بالعفاف وأمسي ذاكراً في غدٍ حديث الأعادي
وقال في المعنى نفسه أحد الشعراء:
وربَّ قبيحة ما حال بيـني وبين ركوبها إلا الحـياءُ
إذا رُزق الفتى وجهاً وَقاحاً تقلّب في الأمور كما يشاء
3 – وأما حياؤه من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات.. قال بعض الحكماء:
ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك عن غيرك.
وقال أحد الأدباء: من عمل في السرّ عملاً يستحيي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قَدْر.
ودعا قوم رجلاً كان يألف عشرتهم فلم يجبهم وقال: إني دخلت البارحة في الأربعين وأنا أستحيي من سني.
وقال أحد الشعراء في هذا المعنى:
فسرّي كإعلاني وتلك خليقتي وظلمةُ ليلي مثلُ ضوء نهاريا
وهذا النوع من الحياء فضيلة في النفس وحسنُ السريرة، فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة فقد كملت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهوراً، وبالجميل مذكوراً، وإن أخلَّ بأحد وجوه الحياء لَحِقَهُ من النقص بإخلاله بقدر ما كان يلحقه من الفضل لكماله.
وقال بعض الشعراء:
وإنـي ليثنيني عن الجهل والخنا وعن شتم ذي القربى خلائق أربع
حـياءٌ، وإسلامٌ، وتـقوى، وإنني كـريم، ومـثلي من يضرُّ وينفع
اللهم
اجعلنا من أهل الحياء.