فرادة القراءة والإضافة
نمر سعدي
أحياناً كثيرة أسأل نفسي ما جدوى أن أكتب نصاً شعرياً آخر؟ ما فائدة أن أضيف الى هذا الكم المعرفي الهائل كلمة بسيطة ؟إذا كانت لا تحملُ في طياتها فرادة عظيمة . وأنا مؤمن أعمق الإيمان أني كمن يضيف الى محيط زاخر بالمياه قطرة ماء واحدة لا تزن ذرة من خردلٍ. أو يشعلُ شمعة خضراء صغيرة في نهار مليء بالشموس العظيمة الضوء . كثيراً ما ينتابني شعورٌ بأني عبثاً أضيعُ عمري وأني لن أصنع أفضل ممّا صنع غيري أو أضيف جديداً مبتكراً , ويراودني شوقٌ كبيرٌ حينها الى الصمت الجميل "صمت رمبو" أمام هذه الملايين من المجلدات والكتب التي تفيض وتزخرُ بها مكتبات العالم وصروحه الحضارية الثقافية . وأقول في سرّي " هل هناك شيءٌ جديٌّ لم يقال بعد , أو هل هناك سؤال لم يسأل حتى الآن" ؟؟. وما زال محتفظاً بحرارته الأولى وبجدارة أن يُطرح .
أنا أدعو نفسي دائماً الى تجاهل هذا السؤال تماماً وأحاول أن أتمرّد على روتينية الحياة والكون القاسية . ولكنَّ خوفاً في داخلي ينمو ويحدثني بأني ربمّا سأستيقظ في غدٍ بعيدٍ ذات صباح ربيعيٍّ بلا قصيدة . أستيقظ بلا رغبة حية بتأثيث هذه الفوضى العارمة التي تجتاح ما حولنا . وتحوّله الى رماد عنقاء ملوّن . أو الى قبض ريح .
ربمّا سأستيقظ بعد إنطفاء شعلة العاطفة البودليرية العظيمة وتلاشي لمعان الذكاء الشعوري الراجح على كل ملكاتي المكتسبة . أقصدُ بذكائي الشعوري تفجرَّ الحسِّ الإنساني المتصيّد لكل متناهٍ في الصغر من ذرات الحياة والوجود . أما الملكات المكتسبة فهي كثيرة منها إكتساب العلم والثقافة والإلمام باللغات العديدة لتوسيع مدارك العقل وعاطفة القلب .
إن لهفتي في إبتداع شيءٍ جديد له خصوصيته وجدته وتميّزه هي ما يدفعني غالبا الى التمسّك بأطياف الحلم الأخير المتلاشي في فضاء التفجرِّ المعرفي والديموغرافي الهائل ووسط تصحرِّ القصيدة الكليِّ في مناخ فقير وخالٍ من الإضافات النوعيّة أو تلك المتفلتة من سطوة التابوهات عليها.
ولكن هل هناك عبقرية في الخلق الإبداعي من غير عبقرية فهم ومحاورة ومكاشفة الأصل الموروث والمؤثرِّ ِفي نفس قارئه ؟ بملامسة مواطن القوة والجمال والجدّة فيه . والتأسيس عليها .
وهذا لا يأتي الاَّ عبر قراءة كاشفة ونافذة لها فرادة الحسِّ وعبقريته .
فكلُّ الإبداع في نظري كتابة واعية على كتابة واعية أخرى .
رغم الوعود الكثيرة التي قطعتها على نفسي بقراءة قدر ما أستطيع من المأثور الفكري الشعري القديم أو الغربي الحديث خصوصاً الروائي الذي طالما تمنّيت أن أكشف خفايا سحره وأستبطن جماله , إلاّ أني حتى هذه اللحظة لم أحققُّ الاَّ الإنجاز القليل المتواضع وما زلت في انتظار الفتح الكبير عله يغني العاطفة والعقل من جوع .
ألم أعد نفسي بقراءة الإلياذة بصمت داخلي وبنفس طويل أو ملحمة جلجامش البابلية كاملة قراءة كاشفة وفاحصة ومتأنية ومن غير توقفٍّ ؟ ولم أفعل, وهذا ينطبق على مؤلفات الأدباء الروس الكبار أمثال دوستوفسكي وتولوستوي وغوركي وبوشكين , ومؤلفات الكتّاب الفرنسيين ومنهم هوغو وفلوبير وبلزاك . والأدباء الألمان وعلى رأسهم جيته وتوماس مان وشيلر . أقصد بقرائتهم قراءةً كاشفة أصلُ فيها الى قاع نفسية الكاتب , والحقيقة المطلقة لعراء الذات أمام بياض الورقة ,والى ما أراد الكاتب أن يوصله الى الغير ,من خلال تمعّنِ الحبر الخفي المتلألئ بين ثنايا سطوره والأهمِّ من كلِّ هذا أن أصل الى عبقريّة الإضافة الحقيقية وفرادتها داخل النص.وسأضرب مثلاً على هذا من خلال قراءتي لأعمال الكاتب اللبناني العالمي المبدع والمثير لغبار الجدل جبران خليل جبران فهو متجددٌ في كل أوان وقادر على إدهاشك وتغيير رأيك المسبق عنه في كلِّ مرةٍ جديدة تقرأه . ففي كل قراءة تجد نفساً آخر وروحاً جديدة وعالماً مختلفاً وكأنَّ الذي يكتب شخصٌ آخر فهو يختزن طبقات ثقافية رهيبة ويمتلك بعداً انسانياً عميق الجذور والأصالة . تستطيع أن تكتشف في كل قراءة نهرا جديداً يتغلغلُ فيكَ ويرفُّ كأنه طائرٌ غريبٌ وتلمسَ ضوءاً يدغدغُ أطرافك وقيمة فنيّة وإنسانية فذةً بالإضافة الى حلم متناسخ عبر القراءات . فجبران كاتبٌ يعرف كيف يضيف وكيف يحررُّ ذاته تحريراً كاملا في الكتابة . وهذا التجددِّ الدائم لماء الإبداع وجدته أيضاً عند شاعر لبناني جنوبي جددَّ في بلورة القصيدة العربية وإشكالية حداثتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هو محمد علي شمس الدين فمنذ قراءتي الأولى له قبل سنوات عدة ما زال يثير فيَّ الفضول والرغبة في كشف قاموسه الشعري المكثّف والصعب والمشاكس والمستند الى عالم غنيِّ متنوعِّ ولا نهائيٍّ من التصاوير التي تشكلُّ خامة كتابته الشعرية , فهو عميق الغور متعددُّ المعاني يغلب على شعره الغموض الشفيف ومساءلة الموجودات الجمالية . وتفيض كتابته بتوظيف الرموز التاريخية والأسطورية الكثيرة بما يشبه الإيحاء المجازي والتناص التاريخي في جدّة ٍ إبداعية وإحتراف أدبي مشهود . ممّا يجددُّ في روح ونهر الشعر العربي الحديث .
وحتى هذه اللحظة أتشبّثُّ بالمنى وأتمسكُّ بحبال الوهم والحقيقة علنَّي أحققُّ وعدي لنفسي , أقول أحيانا ربما جنى عليَّ الشعر بأن وهبني لعنة رفاهية القراءة المتمثلّة بمزاجيتي الغريبة المرهفة القصيرة النفس أحياناً لديَّ والتي ما أن تهبط على زهرة حتى تطير الى أخرى وهنا أقصد المواد الفكرية والفلسفية المستعصية والتي تذكرني بلغة دروس الحساب الجافة ,فكل قراءاتي الفكرية الأولى كانت كهبوب النسيم الخفيف على حديقة المعرفة , ولم تكن قراءة المقيم المتبصّر المستجلّي للخفايا.
كثيرا ما حرضّني الأدباء المصريون الكبار" أدباء الحديث الخفيض" أمثال سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وأنيس منصور, وبقوة لا يُصمد في وجهها على إقتحام عوالم أدباء الانسانية خصوصاً في العام الأخير كما لم يحرضنّي أحدٌ يوماً ما على التوّفر الفسيح الجادِّ على كنوز هذا الأدب , والنهل من ينابيعه الثرّة الصافية التي لا تنضب الى الأبد , وأذكر كيف كان الكاتب المصري توفيق الحكيم أوّل من حرضنّي على قراءة شيء من تراث الشاعر الفرنسي جان كوكتو, ولكنني في كل مرةٍ كنت أشعر بضآلة ما يكتب اليوم إزاءهم ,وأخاف أن يجيء ذلك اليوم الذي أصمت فيه أمام روعة وإدهاش أعمالهم , أخاف ألاَّ أضيف الى ما قدّمت أياديهم شيئاً يُحفظُ لي . وأخاف من صباحٍ بلا قصيدة أو قصيدة بلا صباح يعانق جمال صمتها .