العالم بعين الطفل

خواطر من الكون المجاور

ز. سانا

كان أول واجب مدرسي أعطانا إياه المعلم في الصف اﻷول اﻹبتدائي يتألف من ثلاث كلمات تعبر عن أفراد العائلة وهي : ماما، بابا، دادا، وكلمة ( دادا ) في لغة أطفال بلدي تعني اﻷخ أو اﻷخت ، وكان المطلوب منا كتابة كل كلمة خمس مرات في كل سطر من الصفحة الواحدة ، ثم الصفحة كاملة لكل كلمة.

في اليوم التالي شرع المعلم يصحح واجبات التلاميذ بالقلم اﻷحمر ، ففرغ منها بسرعة ﻷن التلاميذ كلهم كتبوها بشكل صحيح ، ولكن حين وصل المعلم إلي رأى أني كتبت كلمة ( دادا ) بهذا الشكل ( \/ | \/ | ) ، فوقف مندهشا هنيهة وهو يرمقني ، ثم إلتفت إلى بقية التلاميذ وسأل : " من منكم يقدر أن يكتب كلمة (دادا) غيبا ؟" رفع العديد أيديهم فاختار واحدا، فنهض إلى السبورة خجلا وكتب الكلمة ثم عاد إلى مقعده ، نظر المعلم في وجهي وبنبرة لطيفة قال لي : " هل رأيت كيف تكتب الكلمة ؟ " أومأت برأسي موافقا ، عندها طلب مني الذهاب إلى السبورة وكتابتها كما فعل التلميذ، ودون أن أنظر إلى الكلمة المكتوبة ، نهضت إلى السبورة وكتبتها كما هي في دفتري ( \/ | \/ | ) ، ضحك التلاميذ على ما كتبته، أما المعلم فقد دنا مني وهو ينظر إلي نظرة غريبة ثم سألني بلهجة رقيقة : " أنظر كيف هي مكتوبة، وعاين اﻹختلاف بين الكتابتين ، هذه - وأشار إلى حرف (د ) في كلمة التلميذ - ليست كتلك - وأشار إلى إلى( \/ ) في كلمتي - هل فهمت ؟ هيا إكتبها بالشكل الصحيح " ومحا ما كتبته وترك اﻷخرى ﻷكتب مثلها، ولكني أعدت كتابتها كسابقتها ، فضج التلاميذ من جديد ضاحكين وسمعت أحدهم يهمس " إنه مخبول " .

لبث المعلم لحظة ساكنا يرمقني بإمعان ليتبين صفاتي ، فأدرك أنني لست ذلك اﻷبله ، ولكن هناك شيء آخر ينتابني ، وبصوت صارم قال لي " ألم أقل لك إن كتابتها هكذا خطأ ؟ ماكتبته أنت ليس ( دادا ) ، هذه الكلمة تكتب هكذا" . وأمسك بيدي بقوة وأخذ يخط الكلمة أربع خمس مرات وقصده تعويد يدي على كتابة حرف ال( د ) بشكله الصحيح وليس بالشكل ( \/ ) كما أكتبه أنا، وهو يقول بعصبية " هكذا،هكذا،هكذا..... أفهمت؟"

حتى تلك اللحظة ، كنت أبحث في فكري عن وسيلة أستطيع بها أن أشرح للمعلم أن كتابتي هي الصحيحة وأنه هو المخطئ ، وتوقعت منه حين رآني مصرا أن يدرك ذلك بنفسه ، ولكن لم أعلم يومها أن ما تبصره عيناي لم يكن يبصره أحد آخر سواي ، وأن تفكيري الطفولي ، لم يملك الوسيلة الكافية لشرح ما تراه عيني. 

الطريقة التي أكرهني المعلم على سلوكها ﻷكتب الكلمة كما أرادها هو رفضتها روحي نفسها، حين أعتمد قوته البدنية التي تفوق كثيرا قوتي ، وهذا ما جعل اﻷشياء تنحو منحى آخر في حياتي ، لقد تهيأ لي أنني في معركة أخوضها ، لا مدرسة أتلقى العلم في رحابها ، ومنذ ذاك وحتى اﻵن لزمني هذا الشعور الغريب.

صاح المعلم مزمجرا " ماذا تنتظر اكتب ؟ "

ورأيت نفسي أكتب الكلمة مرة أخرى كما أوحت بها روحي ( \/ | \/ | )، وعاد التلاميذ يضحكون عاليا حتى اُسمعت ضحكاتهم أرجاء المدرسة كلها.

ومرت أخرى ، ظل المعلم ساكنا جامدا ، وراح يرمقني بعينيه من قمة رأسي حتى أخمص قدمي ،فوقع بصره على حذائي الغالي النظيف ، ولباسي الفاخر اﻷنيق ، ولاحظ شعري الطويل الممشط ، ولعله أستنتج أنني طفل غني أبطره الدلال ، يريد لفت اﻷنظار إليه بمخالفته طبائع اﻷمور ليثبت لنفسه أنه يمتاز عن اﻵخرين ، وبمعنى آخر ، هذا المعلم توصل إلى أن هذا الطفل الواقف أمامه طفل مغرور بنفسه سيئ اﻷخلاق ، وأن عليه أن يقومه ويهذبه ، هذه مهنته وهذا واجبه. .. فأنذرني مهددا " إسمع ما أقوله لك جيدا، في بيتك تفعل ما يحلو لك، ولكن هنا ، أنت جئت لتتعلم ، هل فهمت؟ ومهمتي أن أعلمك كيف تكتب بشكل صحيح سواء شئت أم لم تشأ، ستكتب كما أريد أنا لا كما تريده أنت هل فهمت ؟ هل فهمت؟..... اﻵن ستكتب كلمة ( دادا ) كما يفعل جميع التلاميذ، والويل لك إن كتبتها مرة أخرى على هواك خطأ." وهددني حانقا بالويل والثبور وعظائم اﻷمور.

لم يكن المعلم يعلم أن الظروف في تلك اللحظات قد ساقت اﻷمور إلى بيئة الكون المجاور التي تحكمه قوانين مختلفة نهائيا عن قوانين الكون المادي الذي نعيشه وأنه في تلك اللحظات قد تحولت اﻷمور إلى نوع من التحدي ، وهذا التحدي لم يكن تحدي بين رجل كبير الجسم مع طفل صغير الجسم ولكن التحدي كان بين روح وروح ، حيث هنا الفرق في القوة المادية لا يلعب أي دور. 

ورأيت نفسي أرفع يدي إلى السبورة وأكتب كلمة ( دادا ) هكذا (\/| \/| ) كما أوحت بها روحي، وإذ بصفعة قوية تفاجئني في وجهي دفعتني إلى السبورة ، ولولا أني تمسكت بحافتها لكنت هويت أرضا. التلاميذ الذين كادوا أن يضجوا بالضحك،أمسكوا عنه فجأة وصمتوا واجمين. فصوت الصفعة رن صداها في أرجاء الصف ، وهذا ما أدخل الفزع في قلوبهم ، ﻷن هذه الضربة كانت اﻷولى من المعلم ، وخيم صمت مرعب مخيف.

صاح المعلم بحدة وشراسة :" ماذا قلت لك ؟ " لبثت صامتا مطرقا برأسي ويدي على خدي مكان الصفعة وكانت نظرات التلاميذ إلي وأنا في مثل هذ ا الوضع أقسى علي من ألم الصفعة. وصرخ المعلم ثانية بصوت غضوب هائج " ماذا قلت لك ؟ " لكني لزمت الصمت. . فعاد وسألني " أنا أكلمك... " ولبثت ساكنا لا أحرك ساكنا من جديد ، فشدني من أذني بقوة ﻷرفع رأسي حتى يرى وجهي، حينئذ ثبت عيني في عينيه بتحد وعنفوان. ولثوان طويلة ظل واحدنا يحدق في اﻵخر...فجأة ترك أذني وتراخت عيناه قليلا ، و خفضت أنا اﻵخر عيني، عندها طلب مني بنبرة هادئة أن أذهب وأجلس في مكاني وحين جلست أضاف " حتى لا يركبك العناد ثانية، وتنصت إلى ما يقوله لك اﻵخرون ستعاقب بكتابة ثلاث صفحات كلمة ( دادا ) بالشكل الصحيح. هل فهمت ؟"

أحسست أعين التلاميذ تحدق في ، فلم أعد قادرا على التحمل في تلك اللحظة تركت لعيني أن تفيض بالدمع السخين.

من يعرفني جيدا عندما كنت طفلا صغير لن يصدق أن هذا الطفل العنيد هو أنا ، فمن المعروف عني في تلك السن أنني كنت أكن إحتراما كبيرا ليس فقط للمعلمين ولكن لكل الذين يكبروني في السن ،فدائما كنت أحاول أن أظهر أمام اﻵخرين كطفل يتصف باﻷخلاق الحميدة ، فأهم شيء عندي كان بأن أكون طفلا محبوبا يجعل أبي وأمي يسمعون عني أشياء سعيدة من اﻵخرين ، وهذا الشعور بالضبط هو ما جعلني أكتب حرف الدال بهذا الشكل ( ^ ) وليس بشكلها المعروف ( < ). ففي اليوم السابق وحين إنصرفت إلى كتابة الواجب، في البداية كتبتها كما يكتبها اﻵخرون ، ولكن بدأ يتراءى لي شيئا فشيئا داخل هذه الكلمة أمر آخر! وعلى الرغم من أنني كنت على وشك الفراغ منها ، توقفت ومزقت ما كتبت ، وعدت كتابة الكلمة من جديد ، ولكن هذه المرة بالشكل الذي أوحت به روحي ، فالشكل اﻷول تبين لي أنه خطأ. وهكذا عمدت إلى تغيير رسم الكلمة من (دادا ) إلى ( \/ | \/ | ) ، ﻷن الشكل اﻷول حسب شعوري لا يشبه معنى كلمة (أخوة)!

هكذا شاء القدر أن يكون لي أخوة أربعة يكبروني ، وهذا الرقم هو عدد أحرف كلمة أخوة (دادا) نفسه، وشاء القدر أيضا أن يكون تسلسل عمر إخوتي : اﻷول أنثى ، الثاني ذكر ،الثالث أنثى و الرابع ذكر ، وهذا ما جعل روحي تبصر إخوتي اﻷربعة ضمن هذه الكلمة ، فالحرفان الثاني والرابع ( حرف اﻷلف | ) تراءى لي بشكل رجل يقف بعيدا مشبها أخوي الذكرين ( الصورة ) ، أما الحرفان اﻷول والثالث ( \/) فقد رأيتهما يشبهان إمرأة متنقبة حجابا أسود يغطي رأسها حتى أخمص قدميها ، مثل نساء الريف عندنا ، أي أن حرف (د) في كلمة ( دادا ) عندي كان يمثل أختي ، وكلمة (دادا ) ليس إلا إخوتي اﻷربعة : الذكران واقفان ،واﻷنثيان مستلقيتان، وهذا ما لم يعجبني قط أبدا، فهذه ال (دادا ) بدت لي وكأنها تقول إن شقيقتي نائمتان ، أو مريضتان ، أو ميتتان لا جدوى فيهما ، أو بمعناها الروحي الذي فهمته روحي هو أن كتابة حرف الدال بهذا الشكل ( < ) يعني أن المرأة هي كائن من درجة متدنية لا يلعب أي دور في تطوير سلوك المجتمع. وأن الرجل هو فقط من يسيطر على كل شيء. وهذا المعنى بالذات كان يأتي مناقضا لشعوري الروحي عن المرأة. 

كل طفل منذ ولادته، روحه مهيئة من الله عز وجل أن تكون في مستوى المطلوب لذلك المستوى الروحي الذي وصلت إليه اﻹنسانية في تطورها الروحي ،وﻷن التطور يشمل عناصر روحية عديدة جدا ، لذلك قوة إحساس الطفل بهذه العناصر تختلف من طفل إلى آخر، بعض العناصر تكون في طفل معين أقوى من طفل آخر ، وفي طفولتي وبسبب الأحداث التي عشتها جعلت روحي منذ طفولتي تشعر بشدة بحقيقة المرحلة الجديدة من التطور الروحي التي تدخلها اﻹنسانية في عصرنا هذا ، حيث المرأة يجب أن تأخذ دورها الحقيقي في التطوير ، فهي المسؤولة عن التطور الروحي ونحن اﻵن نعيش عصر دخل مرحلته الروحية. لذلك رفضت روحي بشدة كتابة حرف الدال الذي يرمز للمرأة بشكله النائم على طرفه ( < ) ، وأصرت على كتابته بالشكل المستيقظ ( \/ ) وكأن روحي بهذه الطريقة أرادت أن تعبر للمعلم ( أو للعلماء وكبار المفكرين بشكل عام ) بأنه على خطأ ، وأنه أتى الوقت لتأخذ المرأة من الرجل عجلة القيادة لأن التطور دخل في مرحلته الروحية والمرأة هي أرقى من الرجل في هذا المجال. 

ما شعرت به روحي في طفولتي نحو الحرف دال لم يكن صدفة ، ولكن هو نوع من الرؤية الروحية التي وهبها الله للإنسان حيث هذا النوع من الرؤية تكون بأعلى مستواها في مرحلة الطفولة ، فالطفل لا يرى كما يرى الكبار فهو يرى الشكل العام للأشياء واﻷحداث وبسبب عدم وجود المعلومات الوافية في عقله بسبب صغر سنه لذلك فروحه تتأثر وتتصرف بناء على الرموز الموجودة في الشيء أو الحدث ،فروحه تتعامل بدون وعي عقلي مع طريقة ترابط عناصر اﻷشياء مع بعضها البعض من حوله، فشعوري هذا عن علاقة حرف الدال ( د ) والذي حولته إلى الشكل ( \/ ) ليأخذ معنى أخت ، لم يحصل عبثا ، فالشكل ( \/ ) هو أيضا الرقم ثمانية كما يستخدمه العرب، و لفظ الرقم ثمانية في اللغة اليونانية هو ( أختو ) أي مشابه تماما للفظ كلمة ( أخت) ، وهذه التشابهات حدثت في ثلاثة أشياء من مصادر مختلفة: عربية، هندية ، يونانية . .فكلمة (أخت ) عربية ، والرقم ثمانية بالشكل (\/ ) هو رقم هندي ، ولفظ هذا الرقم ( أختو ) يوناني.هذه التشابهات لم تحدث صدفة ولكن هي حكمة إلهية وزعها الله على شعوب العالم ،فمن يريد الوصول إلى الحقيقة يجب عليه توحيد معارف الشعوب بطريقة متجانسة ، ومن يبحث في علم الرموز يجد أن الشكل ( \/ ) هو فعلا رمز اﻷنثى ( المرأة ). 

هذه الحادثة التي حصلت معي في بداية العام الدراسي من الصف اﻷول اﻹبتدائي ، ظلت في فكري وكنت كلما كبرت قليلا أحاول أن أفهم سبب تصرفي بذاك الأسلوب ، وكنت كلما إكتسبت معلومات جديدة أتأكد أكثر فأكثر بأن إصراري على كتابة كلمة (دادا ) بهذا الشكل ( \/ | \/ | ) لم يكن مجرد عناد طفل حاول أن يدافع عن أخواته ولكن سببه شيء أبعد من هذا بكثير ، وهذا ماجعلني أبحث بإستمرار عن معاني الرموز المتعلقة بالشكل ( \/ | ) ومع مرور الزمن وتكامل اﻷبحاث توصلت إلى أن هذا الرمز هو أصل كل شيء وبدون هذا الرمز لا يمكن أن يكون هناك أي وجود ﻷي شيء على الإطلاق. فالرمز (\/ | ) هو في الحقيقة رمز روح الله ، وهذه الروح هي البداية وأصل كل شيء .

وأفضل مثال على إثبات صحة هذا الرأي هو سورة الفاتحة فبهذه السورة يبدأ القرآن الكريم ، حيث عدد آياتها هو الرقم سبعة ولكن إذا أضفنا اﻵية ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) التي تقرأ ولا تكتب فسيكون عدد اﻵيات هو الرقم ( \/ ) ورقم ترتيبها هو الرقم واحد فإذا وضعنا الرقمين جنبنا إلى جنب سنحصل على الشكل ( \/ | ) الذي يمثل -كما ذكرنا - روح الله. 

في المقالة المقبلة سنتكلم إن شاء الله بالتفصيل عن رمز روح الله.