آهٍ يا جنين الصفا.... ما أجملكِ قريتي!!
آهٍ يا جنين الصفا....
ما أجملكِ قريتي!!
د. خالد سليمان الشريدة
هي القريةُ التي عمرت مجدها بوعورة التضاريس والشمم ......هي القرية التي تكافلت بالعونةِ والفزعةِ بالفرحِ والألم .......هي القريةُ طالما أكفت نفسها بنفسها شر العوز والحسد والحرم ......هي القريةُ بين زقاقها رفقة الصبا في الحوم والبرم .......هي القرية التي لم يجاورها في مناهجها زحم....
قد يقولون ونقول قالها القرآن حسب تفسيرهم : القرية ظلم وكفر وجحود ، وقالها كمٌ من الشعراء والفلاسفة المتأولون بلسانهم: القرية تخلف وقيود ..... لا لا... قريتي حبٌ مفتوحٌ منطلقٌ بالعونةِ والتراحمِ والعفويةِ....
ما أجملك قريتي كنتِ كعروس في ليلة زفافها بزواجها العذري وسوسنها ودحنونها على القمم .....كيف لماء عيونها ومعاصرها الصخرية تميز في العذوبة والصفاء .....كيف لقطرات مطر الشتاء أن تجعل الأرض نهر يسقي بحراً في وديان القرية ومسارحها .......
في قريتي عقود شاهدةٌ على هامات رجالها المرفوعة وإنجازهم اللامتناهي ....ما أجملك قريتي فأنت المرهم الشافي وفي أرضك مطاببة بسحر عيونك وحاراتك المحاطة بالسلاسل المتحركة والأرجام الراكدة وفراش ترابك الملون بريشة فنان متألق بفنه وإن لم يهندس الفنان لوحاتها ....ما أجملك أيتها الرحى بأنامل تلك النساء على عتبات دارك والمشاركة في نغماتك والصاغية لعزف شبابة وربابة باكية ......ما أوسعك وأرحبك أيتها الزقاق الموصلة إلى فسحة بيادر الغلال المجاورة .......ما أصعبك أيتها الألعاب البدائية الطفولية المزروعة في حارات قريتنا، وما أسهلك على شفاهنا لعشقنا التحدي وتفرد عقلنا بكِ .....ما أصعب حياكة الصوف بالبساط الجنيني وما أعقد تشكيل سلال القصل ومناسفها وما أبسطها عند نساء قريتي ...ما أقسى قلبك أيها اللوح بدرس الغلة الناعمة لتوفر لنا لقمة العيش عند بيادرنا .....ما أجملك يا قريتي وما أبهى اتصال منازلك بأمنها وأمانها وبواباتها الكبيرة المنغلقة إلا من خلال فتحة حجم القادم إلى عراصها..... عذراً أيتها الُلقى أنصفني أيها الشاعوب وأيتها المذراة والقادم والمحراث والمنجل والحاشوشة والشرعة والمنساس فلم يجعلك أبي تلمسي أناملي ....عذراً خابيتي وجرتي وطابون أسرتي المتوهج رسمتكم على صفحاتي وبين أسطري ومؤلفاتي ..... عذراً دكانتي كنتِ مولاً في أعيني وأعين صحبي بكعكبانك وعجوتك ومخشرمك....عذراً قريتي ساقت بي الدنيا على عتبات هؤلاء الغرباء وإن كانوا أقرباء قومية عندي .....قريتي من هذه الأرض خلقنا وزرعنا في وطنيتنا فلم ترتقِ الأوطان إلا بنا....
كنت يا قريتي بأفراح أهلك وعزوتك فرحاً لطفلك وعجوزك شيبهم وشبابهم وكانت أحزانك ذرف دمع على وجناتهم جميعا .....صحبي لساننا كتاب يمشي على هذه الأرض فلن نهمل قراءته ولا تصدقوا كل ما في محتواه .....كنّا في قريتنا نمتشق أجنحة العنفوان وطائر السعد المهاجر وها أنا بعيداً عنها كأن هاماتي مكسورة منحنية بلا عنوان أو مسمى لشخصي أنا غريبٌ بين قومي .....قريتي أنت تاجٌ بغررك الزيتونية واللوزية المتشابكة .....
مضافة قريتي تجمع رجالها على ضوء القمر عبر عرائشها وسقائفها ....وبواكيرهم وعكازاتهم إلى جانبهم سلاحهم يحميهم من وهم المعتدي الآثم ....في قريتي ملكٌ هو المختار طالما بصم لهذا وشهد لهذا بأن له وجوداً وأثراً بين جنباتها ....في قريتي الغربة قسمٌ لهم لأن قدسيتها بصعوبتها وذكراها الأليمة على جوارح أهلها ...قريتي حلاوة كلام أبنائك من حلاوة قرآنهم ودستور حياتهم وتفاصيل يومياتهم وطلاوة هذه الكلمات بطلاوة عمق المعنى ووعورية لفظ كلماتهم .....قريتي على شفاه أبنائها المستقبلة لا المدبرة هي قبلتهم ومسار حدسهم وحسهم ....قريتي عقد اجتماعي من الصمود حتى في قناطرها المعلقة وسنابل قمحها وشعيرها وبلوطتها الرافضة للموت وطالما جددت أنفسها بثمرة ألقتها في ظلالها ....قريتي بصوفية دراويشها وحُجبِهم كانت أمناً وأماناً ودواءً لنا عند غيرنا وحاسدينا .......قريتي على أرضها تذرف الدموع لتخالط زغاريد النساء بلا خجل أو وجل ......في قريتي نمشي على هامات الزمان وأساطيره المنكسرة في عنفوانه وعنتريته ......عذراً قريتي عذراً رمى بي القدر في غير أحضانك الدافئة.....
عذراً أمي تركتني في الخامسة لأجد في قريتي سجناً طالما تماديت في سُبل الهروب عبر دروبها .....عذراً أبي كنت مدللك فرهنت باقي عمرك لتراني شيئا وأدماً مميزاً وآسفك في لحدك أنك لم تراني....
عذراً قريتي هل أنا مسكونٌ بالماضي أم أن عذري لمقام الماضي في بحثي ودراستي..... آه كيف لا وإذا ما بكينا ردت علينا سهول قريتنا وجبالها ودمعت عيونها ففي هذا الماء والسنا طالما تفرح نفوسنا فوق جراحها.... قريتي وإن كنا باقين بزعترك وزيتونك وبهاء أعراسك وأغراسك...
جميلة حنونة يا قريت عذراً قريتي كتبت لكِ بعيداً عن رائحة موطني فربما زلّت قدمي وخانني لساني وسافرت دواتي .....فما أقربك يا سهولها فلم تبعدنا يوماً وإن طالت مقاسات المسافات بين هضابها وربوعها وموارسها ......ما أشهمك أيها المجبر الهزاعي في قريتي، وما أروعك أيتها الداية اللوزية في بيوت نسائها، وما أكرمك أيها البيدر الملعب في قريتي كان صاعكم كرماً وعملكم احتراماً ......ما أقربكم وما أبعدكم رجال قريتي ونسائها فكم كنتن نسائها خالاتي بلا دمٍ ولا قيودٍ أوأنساب....
كيف لصفوفنا البدائية تتشابك متدابكة مشرعة بأبوابها الخشبية ومفتاحها العنقودي الساحر ...كيف لقطعة ذهبية كومُ حِلي وحِلية في أنامل نساء القرية وأعناقها ...كيف لأخلاق أبنائك على الفطرةِ والمحجةِ مع ضيق التعليم وبدائية كتّاب القرية .....كيف لفخة سلكية بكعكلها مغطاة تحت شجيرة هي مصايد للطيور ومعدانها جعلت من نفسها معين لا ينضب بلحم طيرك وطائرها ...كيف للمحنِ المارّة على هذه القرية أن تكون رسماً على وجنات عجائزها .... كيف كان لصحبي أن يتنعموا وقد أخذ التراب والزيت وغير الزيت مأخذاً في ملابسهم وعلى أطراف شوادقهم .....عذراً أترابي ورفاق طفولتي أستحلفكم بالله إذا مررتم بهذا الثرى أن تبروا به ولا تعقوه وبما يستحق من المديح أن توصفوه فظني بكم ما خاب ولن يخيب ....
قريتي أنتمي لها بجناويتي بأني جنيني بقسماتي وإن أضعت هويتي وجواز سفري .....قريتي أرتمي بها في أحضان عصبتي وعصبيتي وإطلالة مشاعري وعيون وجهي.....قريتي أعد لها علما خاصا ببهائها بألوان دحنونها وزهر زرعها ونباتها الجوي والبري عبر هضابها .... ها هي دموعي أنتجت زَحلقاً فنبت شجر الغار كي يكون متكأً لجوارحي بين تلك الأزرع المتناثرة......
قلت لنفسي عند وداع قريتي صبراً فتفجرت أحزاني بلا رقيب ولم ينفعني الصبر حيث جرحٌ منها عميقٌ أدماني .....قريتي على أبوابها جُهز لي كفني وإن طالت غربتي فاسمي ورسمي في سجلاته ومياوماته....
أترابي كيف لا نعود إلى قريتنا الجنينية وإن جننا واغتربنا فطالما أبعدوا الكلاب وباعوا الأبقار والدواب فعادت مسرعة إلى زرائبها ووتدها وفرشة نومها .....قريتي كم هو الدفء بلقاء صحبي بسني عمري من أبناء حاراتك الفوقى والتحتى....
قريتي كيف لأولئك الرجال الذين ضمتهم لحودهم في مقابرك أن يترجلوا فرساناً رافضين المدنية بتواكلها وكسلها عند أحفادهم.....ما أصعب الموت والفراق عند أبناء قريتي وما أبسطه وأهونه عند غيرهم ....ما أطيبك يا كستنا قريتي ببلوطها الميري في حمى طوفهم وطوافهم ....ما أوسعك يا جلامنا وصليبنا وهجيجنا ومرج حمامنا اللامتناهي إلا بتسليم رسالتكم بموقعكم لأختكم ....ما أطعمك في فمي يا حبربور وكلخ وعكوب وجعدة ولسينة وخبيزة ومُرَّار بلدتي ....في قريتي عمالة أهلها أطفالهم بسواعدهم الندية التي تصنع المستحيل، وطالما بعون نسائهم وجيرانهم تحلى الموائد .....في قريتي طائراتهم دوابهم ومواصلاتهم أرجلهم التي لا تعرف الإرهاق والتضجر والهجب إلا بالموت ....في قريتي صحفهم جدران بيوتهم وحواكيرهم وإذاعاتهم عند أبواب دكاكينهم وكهربائهم بزيت بنانيرهم ونيران مواقدهم.....
قريتي كيف لآدم ذهبت به المناصب وجاءه الجاه ذهب مودعا زقاقك كيف له أن يعود إلى دفء موطنه قبل أن تحمله أكتاف المأجورين .....فلتسألوا في قريتي من هو ذاك الفتى اليتيم الذي قطرت عيونه بماء النار بيد الأم فسلمت عيونه لأنها أرادت لابنها نوراً لا عمى فأنار الله عيونه ببركتها ....فلتسألوا قريتي من هو ذاك الخالد المنتهي على موائد غيرها والمتجدد فقط بين جنباتها .....
آه يا جنين يا سهول طفولتي الغراء وجبال شبابي المتهاوي فكأني ولدت للمعالي وإن لم أر للعلى طعماً في نفسي .....لم أجد في غير قريتي إلا اجتماعا للشوق والحنين بالآهات والأوجاع .....قريتي أطلق لها السيف وأسرج لها الخيل قريتي دع لها الصواعق تدوم في الرحى.....
عذراً أبناء قريتي سنعود ولو على نعش ليرموا بنا في مقبرة بعيدة عن مجنتنا- المقبرة- المألوفة عندكم وعندنا...