الخاطرة 48 ..مآساة الطفل الفنان
خواطر من الكون المجاور:
لا أدري بالضبط ما الذي كان يدفعني ﻷذهب إلى ذلك المقهى سواء كنت مع أصدقائي أو بمفردي، ﻷجلس في أحد أركانه وأحتسي قهوتي الباردة هناك بهدوء دون أن أشعر بمرور الوقت ، كل شيء هناك كان سببا كافيا ليجعلني زبونا دائم في ذلك المقهى ، فعدا جمال المكان وأسعاره المتواضعة ، كان هناك شيء آخر يجذبني إليها، شيء يجعل فكري ينشط ويقوم بالبحث والتحليل في مواضيع هامة جدا بالنسبة لي وهو موضوع "سلوك اﻷطفال وتطوره مع مرور الزمن"،
فأمام هذا المقهى الصيفي كانت توجد حديقة صغيرة ، فيها بركة ماء ونافورة تتطاير المياه منها عاليا لتعود فتسقط مصدرة صوتا كصوت هدير الشلالات فيأتي إلى اﻷذان محملا معه رطوبة منعشة للجسم والروح ، وعلى مقربة من تلك النافورة وجدت ساحة صغيرة لمرح ولعب اﻷطفال، فيها ألعاب مختلفة كالأرجوحة والزحليقة والقرص الدوار وميزان وغيرها ، وكان الآباء واﻷمهات يأتون إلى هذا المقهى ويجلسون ليشربوا القهوة ويتركوا أطفالهم يلعبون أمام أعينهم في تلك الساحة الصغيرة. فكان صوت ماء النافورة يمتزج مع صوت وصراخ وضحكات اﻷطفال ليخرج سمفونية موسيقية تسعد الأذن والروح.
وكنت من مكان جلوسي أحتسي قهوتي وأراقب أولئك اﻷطفال الصغار وهم يلعبون فرحين يتمتعون بكل لحظة يمرون بها دون أن يفكروا بما يجري حولهم ،من مشاكل الحياة ومآسيها، كنت أراقب كل حركة يقومون بها ،كل مزحة يمزحونها مع اﻵخرين ،كل ردة فعل ، كل صرخة، كل ضحكة ، كنت أراقب فيهم كل شيء وأقارنه بما كنا نفعله أنا وأصدقائي عندما كنا أطفالا بمثل أعمار هؤلاء اﻷطفال، إختلافات عديدة شعرت بوجودها ، هذه اﻹختلافات كانت تتزايد مع إزدياد عمر الطفل ،فاﻷطفال بعمر 3-4 سنوات كان سلوكهم وردود أفعالهم مشابهة تماما لسلوك أطفال حارتنا في نفس العمر ، ولكن في اﻷطفال بعمر 11-12 عام كان سلوكهم وطريقة ردود أفعالهم على اﻵخرين أقسى بكثير من ردود افعال أطفال حارتنا، وكنت دوما أتساءل مع نفسي عن سبب وجود تلك اﻹختلافات الكبيرة ، هل هي بسبب إختلاف البلاد ، أم هي بسبب إختلاف الزمن ؟ وكان تفكيري دوما يقودني إلى جواب واحد وهو أن اﻹنسانية بدأت تفقد إنسانيتهامع مرور السنوات.
في ذلك اليوم كان على الطاولة التي تبعد عني حوالي ثلاثة أمتار ، إمرأة شابة مع كلبها الصغير و على الطرف اﻵخر من الطاولة جلس طفلها الذي لا يتجاوز السبعة أو الثمانية أعوام تقريبا ، هذا الطفل إستطاع أن يشد إنتباهي إليه أكثر من أولئك اﻷطفال الذين يصرخون ويلعبون بنشاط في الساحة في ذلك اليوم ، فمنذ مجيئه إلى المقهى ، جلس دون حراك ،عينيه تتفحصان الرسمة التي رسمها في البيت ،وكان في كل لحظة ولحظة يمسك بقلم رسم بلون معين ويضع خط جديد على الرسمة ثم يعود إلى سكونه ويبحث بعينيه في تفاصيل الرسمة.
كان إسم هذا الطفل الرسام (يورغوس).
ربما إسم هذا الطفل كذلك ساعد في جذب إنتباهي إليه ، فإسم يورغوس هو اﻹسم اليوناني ﻹسم جورجوس ، وقبل أيام من رؤيتي لهذا المشهد كنت قد علمت بأن إسم يورغوس مصدره له علاقة بالزراعة ،ويعني فلاح او مزارع ، ولكن عندما يكون إسم علم ،فعندها يأخذ المعنى الروحي للزراعة ، فالقديس يورغوس ( جورجوس ) عند المسيحيين هو نفسه النبي خضر عند المسلمين ، واﻹسم خضر مصدره الخضار والمقصود به كمعنى روحي" اﻹنسان النباتي" ، أي اﻹنسان الذي يفضل اﻹعتماد في تأمين غذائه على زراعة النباتات وليس مطاردة الحيوان وأصطيادها وقتلها، أي بمعنى آخر اﻹنسان المحب للسلام ،وقد أشار الله لهذه الفكرة في الكتب المقدسة ، كما تذكر اﻵية القرآنية عن مريم ( وأنبتها نباتا حسنا ) لذلك إبنها عيسى عليه االصلاة والسلام رفض حمل السلاح ،وكذلك اﻵية القرآنية ( محمد رسول الله والذين معه ، أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في اﻹنجيل كزرع أخرج شطئه فأزره فاستغلظ فاستوىعلى سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكافرين وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) لذلك كان إسم الدين الذي حمله النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،هو اﻹسلام ، وله معنى فرض حب السلام على المؤمنين.
ربما هذه المعلومات عن معنى إسم الطفل" يورغوس " وكذلك إهتمامه الشديد بأشياء روحية بالنسبة لسنه ،تعبير اﻷلوان والخطوط الموجودة في لوحته، سهوب خضراء وأطفال يحملون بالونات بألوان مختلفة تحلق في السماء الزرقاء وكأنها تريد أن تتحد مع كرة الشمس الصفراء التي تخرج منها أشعة ضوئية على شكل خطوط في جميع الجهات، ربما جميع هذه اﻷشياء مع بعضها البعض قد خلقت نوعا من التجانس والتوافق بين معنى إسم هذا الطفل وطبيعة سلوكه فأصبح ما يفعله وما يعيشه الطفل يورغوس في تلك اللحظات بالنسبة لي، شيء أهم بكثير مما كان يفعله جميع أولئك اﻷطفال الذين يلعبون في الساحة.
من يراقب بتمعن ملامح وجه اﻷطفال الذين يلعبون ويصرخون في الساحة ويقارنها مع ملامح يورغوس الفنان الصغير الذي لا يحرك ساكنا في مكانه سيجد أن ملامح وجهه فيها تعابير أقوى بكثير من تعابير ملامح بقية اﻷطفال ، وكأنه يلعب ويخوض نشاطات تحتاج إلى جهد أكبر بكثير من تلك التي يخوضها اﻷطفال، فعلى الر غم أنه جالس بدون أي حركة ، ولكن وكأن روحه كانت تارة تطير وتحلق في تلك السماء الزرقاء المرسومة في لوحته وتارة أخرى تهبط لتركض مع اﻷطفال المرسومين في سهوبها الخضراء.
كان يورغوس الصغير ينظر بإستمرار إلى لوحته وفي عينه تعبير غريب ، ربما هي فرحة طفل وهو يرى نفسه قد إستطاع أن يقوم بعمل لا يستطيع فعله إلا الكبار ،أو ربما هي فرحة طفل إستطاع أن يصنع عالما جميلا مناسبا لما تمنته روحه لينسى حرمانه من عطف وحنان أمه التي لم تعد تهتم به والتي صبت كل عواطفها وقبلاتها ومداعبتها لذلك الكلب الصغير ذو الوجه القبيح الذي لا يفرق حضنها ،فخلال النصف ساعة من تواجدهم في ذلك المكان لم أسمعها تلقي كلمة طيبة لطفلها يورغوس تجعله يشعر بحنان اﻷم نحوه ، وكأنه بالنسبة لها غير موجود،فالقبلات والكلمات الحنونة والمدعبات كانت جميعها من نصيب ذلك الكلب ذو الوجه القبيح وكأنه هو طفلها الحقيقي أما الطفل يورغوس فكأنه بالنسبة لها طفل فرضت عليها الظروف تربيته.
شيء آخر كان يشغل بال الفنان الصغير يورغوس ، فبعد تمعن طويل في لوحته كان دوما يرفع نظره إلى زاوية الشارع التي تبعد حوالي 50 -60 متر ، وكأنه ينتظر شخصا عزيزا عليه وعندما يتأكد بأن هذا الشخص لم يظهر بعد يعود ثانية إلى لوحته لينظر إليها بإعجاب وكأنه لا يصدق بأنه هو نفسه الذي رسم هذه اللوحة فيأخذ مرة أخرى أحد الأقلام الملونة ويضع خطا جديد على الرسمة وكأنه يريد أن يزيد شدة اللون ، ثم يعود وينظر بتمعن الى تلك اﻹضافة التي فعلها في الرسمة فيما إذا كانت قد زادت في جمال اللوحة أم لا، فتزداد ملامح اﻹعجاب على وجه ،فبدا وجهه وكأنه يبتسم والفرحة التي كانت تملأ وجهه وكأنها نور يضيء ملامح وجهه بأكمله.
كنت أعلم تماما ما يجري في روح هذا الطفل الصغير في تلك اللحظات ، فأنا لم أنسى ماشعرت به في أول مرة وأنا أنظر في تلك الرسمة التي رسمتها عندما كنت صغيرا وكانت الرسمة وجه طفل رسمته من مجلة أطفال ، كان شعور غريب و لذيذ وأنا أنظر إلى شدة الشبه بين الرسمتين رسمتي ورسمة المجلة ،فلا أصدق ما تراه عيناي ، وأذكر أيضا أنني عرضت على كل أفراد عائلتي وكل أصدقائي تلك الرسمة، فكانت فرحتي تزداد مع كل دهشة أراها في وجه كل شخص يرى رسمتي. إحساس ممتع منعش للروح لا يقدر بثمن.
كم كان بودي في تلك اللحظات أن أطلب من يورغوس الصغير أن يريني لوحته ﻷريه دهشتي ليشعر هو أيضا ما كنت أشعر به أنا عندما كنت طفلا بسنه ،وﻷمدحه وأشجعه على المثابرة وﻷعطيه بعض النصائح البسيطة التي يمكن لها أن تجعل من لوحته أجمل بكثير مما يتصور ولينمي موهبته بوقت أقل وبطرق أسهل، كان بودي أن أفعل ذلك ولكني لم أفعل ، فقد خشيت أن يظن اﻵخرين بأنني أستغل الطفل الصغير بهدف إقامة علاقة ما مع أمه فحسب ، وإحساسي كان وكأن أمه من هذا النوع الذي يسمح ﻹقامة علاقات جسدية مع الرجال اﻵخرين ، لا أدري ولكن شكلها وسلوكها كان يدل على ذلك.
وفجأة صرخ يورغوس فرحا ( أتت الخالة ) وأمسك بلوحته وإنطلق مسرعا نحو خالته إلى زاوية الشارع ، رأى الكلب الخالة وهي قادمة فقز من أحضان صاحبته وإنطلق هو اﻵخر نحوها ، عندما وصل يورغوس إليها مد يده فرحا ليري لوحته الفنية لخالته، ولكن قبل أن تمد الخالة يدها لتأخذها وتراها عن قرب، كان الكلب قد وصل إليها وقفز إلى صدرها ،فأخذته في أحضانها وراحت تقبله وراح هو يلحس بلسانه وجهها بأكمله ، وحملته وراحت تتقدم نحو أختها ، بينما يورغوس سار بجانبها ينظر إليها ينتظر أن يأتي دوره لتتكلم معه وترى تحفته الفنية.
عندما وصلت الخالة إلى الطاولة طلبت منها أم يورغوس أن تجلس لتشرب معها القهوة ولكنها إعتذرت وأخبرتها بأنها على عجلة ولا تستطيع أن تبقى معها كثيرا ، وراحت دون أن تجلس تسألها عن أشياء مختلفة وبنفس الوقت تداعب وتقبل الكلب ذو الوجه القبيح الذي لم يفارق حضنها، أما يورغوس فناننا الصغير فظل واقفا وبيده الرسمة ينظر إلى خالته ينتظر دوره لتتكلم معه ، ولكن الخالة كانت مشغولة بمداعبة الكلب ومحادثتها مع إختها،وبعد عدة دقائق من المجادلة مع أختها قبلت الكلب وأعطته لأختها لتذهب ولكن الكلب إنزعج لأنها ستتركه وتذهب فراح يعوي بعصبية ، ولكن الخالة تابعت خطواتها مبتعدة عنهم وهي تنظر إلى الكلب وتقول له وكأنها تتكلم مع طفل بعمر 3-4 سنوات (لا تحزن يا صغيري سأراك غدا )!
أما يورغوس فراح ينظر إلى خالته وبيده اللوحة وعلى وجه علامات خيبة اﻷمل، وكأنه لا يصدق بأن إنتظاره الطويل لخالته ذهب هباء ودون حتى أن تتكلم معه أو تلقي نظرة نحوه ، وعندما إختفت من أمام عينيه ، وضع الرسمة على الطاولة بصمت، وذهب إلى سياج الحديقة وجلس هناك.
من ينظر إلى يورغوس الصغير وهو جالس وحيدا في تلك اللحظة ، سيعتقد أنه ينظر إلى اﻷطفال الذين يلعبون أمامه ، ولكن من يعلم ما حدث له قبل لحظات ،ومن يتمعن جيدا في ملامح وجهه في تلك اللحظات ،سيعتقد أن يورغوس هذا ليس ذاك الذي كان منذ دقائق ينظر إلى لوحته بإعجاب وهو يشعر بمعنى الألوان وتجانسها مع بعضها البعض و بتأثير الخطوط وكأنها جمل تتألف من كلمات لها معنى فهو كان يبدو وحيدا بعيدا عن بقية اﻷطفال، ولكن كل شيء في تلك الرسمة كانت بالنسبة له صديق يشاركه فرحته ، كل تعبير في وجهه ،كل خط فيه كان يخفي إبتسامة تجعله يشعر وكأنه أسعد طفل في العالم......أما الطفل يورغوس الذي يجلس اﻵن قرب اﻷطفال على السياج ، فكان وجهه خال من الملامح ، يبدو وكأنه ينظر إلى اﻷطفال، ولكنه في الحقيقة ينظر إلى مكان بعيد ،بعيد جدا ، هناك حيث اللاشيء يدمر كل شيء.
بعد دقائق قليلة ،هبت نسمة خفيفة فحملت الرسمة من الطاولة ورمتها على بعد ثلاثة أمتار تقريبا ، فنادت اﻷم إبنها ( يورغو ) ولكن يورغوس ظل جالسا كتمثال بدون حراك ، فعادت اﻷم ونادته بصوت أقوى ( يورغو ) ، وظل يورغوس ساكنا لا يسمع شيئا مما يحدث حوله، ، فصرخت به بعصبية ( يورغووووووو ) فالتفت إليها يورغوس وأجابها بعصبية هو أيضا (ماذا ؟) فقالت له بعصبية (لماذا لا ترد على ندائي لك ) فقال لها بعصبية وكأنه لا يطيق أن يتكلم مع أحد ( ماذا تريدين ؟ ) فأشارت له على مكان سقوط الرسمة ، فنظر إليها يورغوس ورفع يده بعصبية وكانه لا يهمه نهائيا أمر الرسمة ، وعاد وإلتفت إلى اﻷمام وراح ينظر إلى مكانه السابق هناك حيث اللاشيء يدمر كل شيء ولا يترك منه أي أثر.
كلما مررت بقرب هذه الحديقة ، يأتي بفكري ذلك الطفل يورغوس وأتساءل مع نفسي" يا ترى هل لاتزال طبيعته موافقة ﻹسمه الذي يحمل معنى ( الإنسان المحب للسلام ) أم أن الظروف قد أجبرته على التخلي عن هذه الطبيعة ﻷنه في هذا العصر الذي نعيشه أصبحت صفة (حب السلام ) لا تجلب لصاحبها إلا الشقاء. ﻷن اﻹنسان المعاصر بطبيعته ونوعية أفكاره أصبح أقرب بكثير من اﻹنسان الحيواني منه إلى اﻹنسان النباتي ، عنف وحشية ،إنتقام ، كذب ، إحتيال ،إباحة جنسية. ........
قبل يومين وبعد مرور أكثر من عشرين عاما على تلك الحادثة ،مررت بقرب تلك الحديقة ، كانت النافورة ( الصورة ) لا تعمل كالعادة و البركة جافة تماما من الماء ، أوراق الأشجار وأوساخ مختلفة تملأ زواياها ، أما المقهى ، فصاحبها عندما وصل إلى سن التقاعد عرضها للإيجار ولكن اﻷزمة اﻹقتصادية لم تشجع أحد أن يستأجرها فأغلقها،فالناس لم يعد لديها الدخل المالي الكافي لتستطيع أن تذهب بأطفالها إلى الكفتيريات والمطاعم والمنتزهات كما في السابق ،وتحول مكان المقهى إلى ملعب الضاما، والدومينو والكنجفة ،حيث يأتي إليه كل شخص عاطل عن العمل ليلعب مع العاطلين عن العمل إحدى تلك اﻷلعاب ، ليمضي وقته هناك دون أن يتكلف بأي مصروف وما أكثر العاطلين عن العمل هذه اﻷيام في اليونان.
أما الساحة الصغيرة ( الصورة) التي كانت تعج باﻷطفال ، حيث بعضهم يتمرجح على الأرجوحة ،وبعضهم على الميزان، وبعضهم يصرخ على القرص الدوار ، كل هذه اﻷشياء ذهبت كما ذهبت رسمة يورغوس الصغير مع الريح. فبسبب اﻷزمة اﻹقتصادية التي تمر بها اليونان ، لم يعد رأسمال البلدية يكفي لصيانة النافورة والأرجوحة وألعاب اﻷطفال اﻷخرى ، وكل شيء كان يتعطل عن العمل كان عمال البلدية يأتون ويأخذونه على أمل أن يأتوا بواحدة جديدة ، ولكن كل شيء ذهب لم يعد ثانية أبدا.وهكذا شيئا فشيء إختفت جميع اﻷلعاب من الساحة ، ومع إختفاء اﻷلعاب لم يعد يأتي إليها اﻷطفال ، وتحولت الساحة إلى ملعب للكلاب ، حيث تربية الكلاب أصبحت شائعة جدا أكثر بكثير من تربية اﻷطفال ، وأصبح كل شخص يقيم قريبا من هذه الساحة يأتي بكلبه إليها ليتعارف هو على أصحاب الكلاب اﻷخرى ، ولتلعب الكلاب مع بعضها البعض ، وبدلا من أصوات اﻷطفال و صوت هدير الشلالات الذي كان يأتي من النافورة محملا معه رطوبة منعشة وسمفونية موسيقية تسر اﻵذان والروح ، أصبحت هذه السمفونية ضجيج عواء الكلاب ، والرطوبة المنعشة أصبحت رطوبة كريهة من بول وبراز الكلاب الذي يلازم زوايا الحديقة بأكملها.
نظرت إلى الساحة وشعرت بما تراه عيناي وكأنه له معنى واحد ، الشيطان يقهقه ضاحكا ويقول" أنا أسيطر على هذه الساحة ،هي اﻵن ملعب يلعب به أولادي ( الكلاب) ، لقد إنتصرت عليك يا آدم ، فأبناءك اﻵن أصبحوا من الدرجة الثانية ، أبناء العذاب والحرمان"
في مثل تلك اللحظات أشعر بروحي وهي تريد أن تصرخ :
أين أنتم يا علماء الدين ،اﻹسلامي ، المسيحي ، اليهودي ،البوذي، الهندوسي......
أين أنتم ياعلماء النفس
أين أنتم يا علماء اﻹجتماع
إين أنتم يا علماء النبات ، يا علماء الحيوان
إين أنتم يافلاسفة
أين أنتم يا فنانين بشتى أنواع الفن ،الرسم ،النحت،الموسيقى،الأدب، المسرح ،السينما......
أين أنتم ...،.،
ويتهيأ لي بأنه لا أحد منهم يسمع صرختي ،ﻷن جميعهم يعتقدون بأن علومهم ليست لها علاقة بهذه المشكلة اﻹنسانية ، ﻷن كل أنواع المعارف في عصرنا الحاضر أصبحت تهتم بنفسها فقط ، الدين أصبح للدين ، والفن للفن ،والفيزياء للفيزياء، والفلسفة للفلسفة ،.....ولا أحد من هذه العلوم يهتم بالمصير الحقيقي للإنسانية ، وأقصد هنا مصيرها الروحي.
ولكن، الله موجود وسنته ستسير كما يريد هو فقط ،وهو يمهل ولا يهمل ، وإن يوم الفرج لأرواح هؤلاء اﻷطفال البريئة بإذن الله لقريب.
وسوم: العدد 631