خواطر من الكون المجاور الخاطرة 50 .. اﻹنسان السليم

وضعت طفلها الرضيع في سريره الصغير وراحت تنظر إليه والدموع تتساقط من عينيها دون توقف ، فكلمات الطبيب الذي فحص طفلها قبل قليل لا تزال تدق في أذنها وكأنها تريد أن تثقبها " للأسف طفلك لن يستطيع السير على قدميه أبدا " ، شعور فظيع لا يزال ينتابها وكأنها لا تصدق أو لا تريد أن تصدق ، بأن هذا الطفل الذي رسمت له في أحلامها صور مختلفة ، تارة وهي تركض وراءه لتمسك به ،وتارة أخرى وهو يلعب مع أصدقائه كرة القدم أو السلة ، وتارة وهو يسوق دراجته الصغيرة.... .

صور عديدة حلمت بها لطفلها ، ولكن اﻵن جميع هذه الصور تحطمت فجأة أمام عينيها بعد سماعها كلمات الطبيب " طفلك مصاب بمرض ضمور العضلات الشوكي " .

للحظات أتت في مخيلتها ما قرأته وما سمعته عما كان يفعله أجدادها القدماء في مدينة سبارطة قبل أكثر من ألفي عام ، حيث كان الطفل الحديث الولادة يتم فحصه جيدا لمدة عدة أسابيع ، فإذا وجدت به عاهة أو أي مرض يمنعه في كبره بأن يتمتع بجسم سليم يسمح له أن يعتمد على نفسه بشكل مطلق ، كانوا يأخذونه إلى منطقة كياذوس، حيث يوجد هناك كهف في أحد المنحدرات يرمون فيه الأطفال المريضة ليموت هناك ، بهذه الطريقة كان نظام المدينة يحاول تطهير سكانها من جميع المورثات التي تسبب خلل أو عيب في بناء جسم اﻹنسان.

للحظات بدأ يتهيأ لها وكأن شخص ما يحمل طفلها ويسير به نحو ذلك المنحدر ليرميه في ذلك الكهف الذي رمي فيه مئات اﻷطفال من قبل ، فتراه يرفع بطفلها عاليا ، فتشعر فجأة وكأن تياراً كهربائيا يصعقها ،فتصرخ خائفة " لا "، صرختها كانت تقطع عليها سلسلة أفكارها، فتستيقظ من كابوسها الذي مر في خيالها وكأنه حقيقة، وتنظر إلى طفلها ، فتراه ينظر إليها بطريقة وكأنه يتمعن في ملامح وجهها ليعلم لماذا أمه حزينة ، وعندما يراها هي أيضا تتمعن في وجهه ، يبتسم لها وعندما يرى الطفل أن ملامح وجهها تغيرت قليلا ﻷنه إبتسم لها تكبر إبتسامته وتتحول إلى ضحكة ، ترى اﻷم ضحكته وتهمس في قلبها ، " إنه يضحك ، إنه يفهم ما يدور في داخلي " وتمتزج إبتسامتها له مع بكائها وتأخذه وتحمله وتضمه إلى صدرها بحنان وبقوة وكأنها لن تسمح ﻷحد أن يأخذه منها ليرميه في كهف اﻷطفال المعاقين ، فتشعر وكأنها تريد أن تصرخ ليسمعها الجميع " إبني ليس معاق ، فهو يبتسم ويفهم ماذا يدور في فكري ومشاعري ، وهذا يكفي ﻷن يتابع حياته ليكون فرد مساهم في بناء المجتمع، ﻷنه يستطيع أن يحس بشعور اﻵخرين ".

في ذلك اليوم تخلت اﻷم عن حلمها الذي كانت تحلم به سنوات طويلة ، وإتفقت مع زوجها أن تبني كنيسة صغيرة قرب بيتها تذهب إليها يوميا لتصلي هناك وتطلب من الله أن يمدها بالقوة لتستطيع أن تقدم لطفلهم كل ما يحتاجه من عناية ، فطفلها يختلف عن جميع اﻷطفال ويجب عليهما أن يؤمنا له كامل هذه العناية. ليستطيع طفلهم أن يكون في المستقبل فرد صالح ومساهم في بناء مجتمع سليم .

هذا الطفل الذي نتكلم عنه ولد عام 1985 في اليونان وإسمه " ستيليوس كيبوروبولس"

في عيد اﻹستقلال الوطني لليونان من كل عام ، وحسب تقاليد هذا اﻹحتفال ، كانت تبدأ مسيرة أمام منصة الجندي المجهول ، وكان يشارك في هذه المسيرة الجيش والشرطة واﻹطفائيين وغيرهم من موظفي الدولة، ومع هؤلاء كان يشارك أيضا طلاب المدارس وكانت العادة أن على الطالب اﻷول في كل مدرسة أن يسير في المقدمة وفي يده علم البلاد ليقود جميع طلاب مدرسته ، ومنذ أن تم وضع هذا النموذج من اﻹحتفال ، كانت الشروط المطلوبة للطالب حامل العلم أن يكون صحيح الجسم ودون أي عاهات جسدية ، ولكن في عام 1998 راح مدير المدرسة ومعه جميع اﻷساتذة وجميع الطلاب يطالبون من وزير التربية بإلغاء قانون ضرورة وجود الصحة الجسدية لحامل العالم في المسيرة ، وكان هذا الطلب قد تم خصيصا لذلك الطفل ( ستيليوس ) الذي كان دوما يحصل على مرتبة الطالب اﻷول في المدرسة ، ولكن قانون الدولة كان دوما يمنعه من المشاركة في المسيرة وحمل العلم ، فوافق الوزير على طلب هذه المدرسة ، وهكذا وﻷول مرة في تاريخ اليونان منذ إعتماد هذا النموذج من التقاليد في إحتفالات اﻹستقلال الوطني، ومنذ ذلك العام بدأ يظهر (ستيليوس ) باستمرار في مسيرة إحتفال اﻹستقلال الوطني وهو على مقعده المتحرك وعليه علم البلاد ،يسير في مقدمة طلاب مدرسته ، وكان الناس المصطفين على جانبي الشارع عندما يرونه يقترب منهم يصفقون له تصفيقا حاد وكأنهم يصفقون لرئيس الدولة.

في كل عام كنت أنتظر بلهفة هذا اليوم الذي سيعرض هذا اﻹحتفال الوطني لليونان على شاشة التلفزيون ، فأنظر جيدا في وجوه اﻷشخاص الذين تلتقطهم عدسات التصوير ،أبحث بينهم ليس على وجه ( ستيليو ) ولكن على وجه أمه ﻷرى بوضوح ملامح وجهها وهي ترى إبنها، فقد كنت أشعر دوما وكأنني أقرأ في ملامح وجهها عبارة تريد أن تقولها لجميع سكان اﻷرض ( إنظروا كم هو اﻹنسان كائن عظيم ) ، فبدلا من أن يكون إبنها مرميا في كهوف اﻷطفال المعاقين كما كان يحدث قبل أكثر من ألفي عام ، تراه اﻵن في المقدمة ، يرفع هو العلم ليقود خلفه جميع طلاب مدرسته ، في تلك اللحظات وأنا أرى ستيليو وأمه يأتي إلى فكري الحديث الشريف ( الجنة تحت أقدام اﻹمهات ) ، فأقول في نفسي "لو كان علماء اليوم يعلمون مدى العمق الفلسفي لهذه العبارة الشريفة لكان عصرنا يختلف كثيرا عما هو اﻵن، ولكان أكثر إنسانية ورحمة ".

ستيليوس كيبوروبولوس نجح في شهادة البكلوريا بدرجة إمتياز تسمح له بدخول أي كلية يتمناها قلبه ، ولكنه إختار كلية الطب ليتخصص في الطب النفسي قسم اﻷعصاب، ليستطيع أن يساعد نفسيا وعلاجيا أولئك الذين يعانون من أشياء مشابهة لحالته تمنعهم من الخروج إلى المجتمع ومواجهة الحياة ، واﻵن يتابع دراسته في كلية الطب في أثينا والكلية تحاول أن تعينه مدرسا فيها.

أحد المخرجين في اليونان قام بتصوير فيلم وثائقي عن حياته عرض في أحد القنوات التلفزيونية الحكومية ،الفيلم يحمل عنوان (ينادونني ستيليو ).

هناك حكمة يونانية قديمة تقول ( العقل السليم في الجسم السليم ) ،للأسف الكثير من المفكرين فهموا هذه الحكمة بشكل سطحي ، وظنوا أن المقصود به هو الجسم القوي والصحي ،ولكن المعنى الحقيقي لهذه الحكمة يتعلق بنوعية الجسم وليس ماديته من صحة وقوة ، والمقصود بالنوعية هو اﻹنسجام السليم في هندسة وتركيب الجسم ، فهندسة جسم اﻹنسان تختلف نهائيا عن هندسة جسم القرد أو الكلب أو القرش ، لذلك تعتبر نسبة التناسق في جسم اﻹنسان عالية ، أما في القرد فهي ضعيفة جدا ،ولهذا يعتبر عقل اﻹنسان عقل سليم قادر على صنع الحضارات ، أم القرد فعقله ذو نوعية متدنية لذلك فهو غير قادر على صنع الحضارات.

ما نفع أن يكون اﻹنسان يملك جسما يتمتع بالصحة والقوة ، ولكنه يستخدمه في القتل وسفك الدماء ، أو بالسرقة واﻹحتيال ، أو في خداع النساء لإشباع شهواته الحيوانية ،الجسم السليم كما يفهمه اﻹنسان المعاصر هو خدعة من خداع العصر ليبتعد اﻹنسان عن النمو الروحي لينمي بدلا منه فقط عضلات جسده ،ليتحول إلى ما يشبه الثور الذي يركض وينشر الدمار في طريقه.

هناك قصص كثيرة تحكي على أشخاص مثل (ستيليوس ) إستطاعوا أن يحققوا أهدافهم ليثبتوا للآخرين بأن اﻹنسان كائن عظيم ﻷنه يحوي في داخله جزء من روح الله. ولكن للأسف وسائل اﻹعلام العالمية اليوم تفضل أن تتكلم على أصحاب العضلات بدلا من أصحاب العقول المنورة.

وسوم: العدد 633