لها الحق في أن تسرح ..

 عندما حـلّ الموسيقار محمد الأمين ضيفا على برنامج "مطر الألوان" في فضائية أمدرمان .... كان من ضمن الأسئلة التي وجهها إليه مقدم البرنامج ....

 دايرين تورينا قصيدة الشاعر فضل الله محمد "الجريدة" عملت فيك شنو يا محمد الأمين؟

لقد فعلت "الجريدة" بفضل الله محمد ما فعلت .. أكل من كل الثمرات والمعطيات المحيطة به آنذاك ؛ وعالج دهشته ليخرج لنا منها شعراً فيه شفاء للناس ولذة للوجدان .

ثم نزلت "قصيدة الجريدة" كالماء على أرض محمد الأمين ؛ فاهتزت وربت وأخرجت لنا من كل زوج بهيج.

ولن يستطيع محمد الأمين أو فضل الله محمد أن يشرحا لك - أحدهما أو كلاهما - يا حسين خوجلي "وإن جاهدتهما" عن ماذا فعلت فيهما الجريدة.

في مجال الشعـر والغناء والألحان والرسم والإبداع بوجه عام .. يظل الأفضل دائماً أن لا نسأل صاحبه لماذا إنفعل ... ولماذا قال وكيف كتب...

أمثال هؤلاء تظل أعمالهم تلخيصاً لفترات ومشاهدات ومعاناة ودهشة . وحالات إستقبال وإنطواء وإنفتاح ردود أفعال ؛ بدأت منذ تكوينهم أجنةً في أرحام أمهاتهم وإتصالهم بما يموج به المجتمع عبر الحبل السُـرِّي ..

وحين يُقال أن المبدع يظل كالطائر بجناحين ؛ يضع أحدهما على الأرض والآخر على مشارف السماء ... فإن "شاعر الجريدة" .. و "مطرب الجريدة" قد دفعتهما "صاحبة الجريدة" ليصبحان طائران من ذوي الأجنحة.

وأنت إذا سألت المبدع أحرجته ، وحرمته متعة التيــه والغموض والتمرّد .... وهيامه اللاإرادي في أودية عبقـر ..... يتبعه المحرضون في رحلة من البحث اللانهائي بلا إجابة عن حقيقة دوافعه المتناقضة التي يعيها أو لا يعيها... وماهية التراكمات الثقيلة التي يحملها دون إختيار منه على كاهله. ويشتاق أن يضعها على الأرض ليحملها بدلاً عنه الناس وينشغلون بها.

وعليه... فإنني هنا أستميح شاعر الجريدة و مطرب الجريدة عذراً .. وأضرب صفحا.

الفترة التي تغنى بها محمد الأمين بأغنية الجريدة عبر إذاعة "هنا أمدرمان"؛ كانت تلك المعاصرة لثورة أكتوبر 21 المجيدة ... وتدور في فلكها.

وبالتالي يمكن إعتبارها جزءاً ، وجانب من جوانب تطور الوعي الجماهيري الذي أفرزته هذه الثورة الشعبية المجيدة ؛ التي لم تجد بعد حقها في الدراسة العميقة بما تقتضيه وينبغي وكمصدراً للإلهام. هذه الثورة التي جعلت الكلمة الفصل ملكاً للشعب وحده ، وتخرج لأول مرة من حناجره مباشرة تحت أغصان النيم في الساحات والطرقات . بعد أن كانت كلمته تخرج بالنيابة من "داخل البرلمان" ... أو تفرض نفسها عليه كرهاً من "داخل الثكنات".

وكان حجم ومدى التغيير والقناعات الجديدة التي أدخلتها أكتوبر إلى الذهنية العامة أكبر من الحيازة ؛ وتناولت بمعاولها الكثير من أبراج التابوهات ؛ وجعلت المتعدد من حبيس الصدور ، والكثير من المسكوت عنه مطروحا على طاولة النقد والبحث والنقاش.

وكان من أبرز إرهاصات معاول "الجريدة " أنها قد لفتت الإنتباه ؛ وأثارت الكثير المتعدد من ردود أفعال ، ودفق حماس الإستقبال وسط طلاب الجامعات والثانويات والطبقات العمالية المستنيرة اليافعة في تلك الفترة ....

وبالطبع فلم يكن مثل هذه الصرخة التي ذهبت إليها الجريدة في الصياغة المباشرة المبسطة ؛ وتضمينها مرحلة جديدة من علاقة الرجل بالمرأة .... وإعترافها بثقافة هذه المرأة وحقها في حرية الإختيار .... وأن تكون لها كينونتها الفكرية الخاصة بها دون وصاية

لم يكن هذا ليمر مرور الكرام على حراس السرداب وسدنة المعبد. فإنبرى لها في وقتها البعض من أصحاب أقلام "الكوبيا" ؛ يعالجونها بالذم والقدح السطحي ... وإعتبروا كلماتها ركيكة وخارجة عن السياق العام ... وسخروا من فضل الله محمد "الشاب" بإعتباره يحاول تقديم نموذج إمرأة خواجية .

 وتمنوا عليه لو كان قد إهتدى بأطروحات ومعالجات أغنية "زهرة روما"... و "غزال المسالمة".

وفي نهاية المطاف لم يكن ليصح إلا الصحيح ... فانتصر الحاضر والمستقبل على الماضي المتكلـس .... والتصقت هذه الأغنية بوجدان الشعب ..

بها أفصح شاعرها فضل الله محمد عن خبايا "عقله الباطني" وأطلقوا عليه لقب "صاحب الجريدة" ...... وبها زاحم محمد الأمين اقرانه وسبقهم ، وتفدم الصفوف ليلحق بعمالقة زمانه من المطربين .... وأصبح يوصف بـ "مطرب الجريدة" لسنوات طويلة.

كانت أغنية الجريدة إذن تمثل في زمانها الحد الفاصل بين قناعات وأخرى في علاقة الرجل مع المرأة بالمجمل .... ولموقع المرأة في بؤرة التفاعل الإجتماعي والثقافي. يقدمها فضل الله محمد كشريك أساسي داخل المنزل وخارجه.

ومن الضروري بمكان التأكيد بقوة هنا ؛ أن إمرأة الجريدة لم تكن كما يظن البعض أنها متمردة على تقاليد مجتمعها...... ولم يكن فضل الله محمد يكسر بها الحواجز كما زعم أصحاب أقلام الكوبيا .... لا بل كانت إمرأة موجودة ماثلة .. ولكن لم يكن أحد يشعر بها ويتفهم طموحاتها ..... فجاء فضل الله محمد ليكشف عنها النقاب ويقدمها إلى مجتمعها على أبيات من الشعــر ... وتغنى بها محمد الأمين على صدى الألحان ووقع الموسيقى.

نعم لم تكن إمرأة الجريدة تمثل الغالبية في بنات جيلها .... ولكن خرج فضل الله محمد يبشر بها .. ويتوقع لها المستقبل .. وربط كل ذلك بالتعليم والمعرفة والثقافة ... ففرحت بها الأغلبية .. وتوجس منها البعض خيفة.

وبوجه عام ؛ تظل أغنية الجريدة توثق لتطور ملحوظ عند جانب مشاركة المرأة في قضايا عصرها .. ناهيك عن أنها قد أسقطت خمار سلبيتها وتبعيتها المنقادة للرجل إلى غير رجعة.

وبفضل الجريدة جرى توثيق الجانب الفكري الذي فرضته مخرجات التعليم والتنوبر الممنهج الذي حظيت به المرأة ؛ على يد رجال ونساء أفذاذ في تاريخ التعليم الأكاديمي للبلاد منذ فترة ما قبل الإستقلال ... وهي المخرجات التي أتاحت لها ثورة أكتوبر أن تطفو .. تطالب بمنحها الفرصـة ، تتقدم الصفوف في التظاهرات والندوات السياسية

 تفرض واقعها على وجه ومسيرة المجتمع .. وتطوي ماضيها السلبي كـطيّ السِجِــل.

على أية حال فلا ينكر باحث أن الموسيقار محمد الأمين ، والشاعر فضل الله محمد إنما كانا نتاجاً طبيعيا وأبناء مخلصين من أجيال ثورة أكتوبر .... وإنفعال الموسيقار محمد الأمين بثورة أكتوبر 21 في العديد من أعمالة الموسيقية لا يخفى على أحـد... وحيث هناك شريط كاسيت كامل من أناشيد وطنية له ، جرى تداوله في تلك الفترة وعرف بإسم "الأكتوبريات" ؛ كانت معظمها من كلمات فضل الله محمد.

ولكن من غير الممكن تناول الحديث عن قصيدة الجريدة ؛ دون أن نعرج على ما كانت تزخر به ساحة الشعر الغنائي خلال تلك الفترة ؛ من أطروحات لمفاهيم وقناعات سائدة في المجتمع حول العلاقة بين الرجل والمرأة .. والكيفية والمفاهيم التي قدمها بها شعراء تلك المرحلة التي سبقت 21 أكتوبر 1964م.

الذي يلاحظه كل مهتم أو مستمع عادي للغناء السوداني ... يدرك أنه يستمد جمالياته من كونه يتفاعل مع المجتمع ، ويرصد ويوثق لتطوره بشفافية ودقة متناهية.

ولكن الذي تجدر الإشارة إليه هنا ؛ أن الأمر لايبدو عمليا بهذه الساطة والسهولة ؛ خاصة عندما يبادر أحد الشعراء يتبعه ملحن ومطرب ذكي إلى طرح رؤى جديدة بكل شجاعة ..

والحالة هنا لا تخرج عن أمرين :

1)                  إما أن يكون العمل الفني معبراً عن الظرف الزماني والمكاني المعاش.2) أو أن يكون العمل سابقاً لزمانه.

ولا أشك في أن فضل الله محمد ، ومحمد الأمين قد تعرضا للكثير من الضغوط النفسية في بدايات إذاعة هذه الأغنية . لاسيما وأن منابر النشر والرأي والرأي الآخر في الصحافة الورقية لم تكن متوفرةً على هذا النحو الذي نراه الآن من تعددية وتفاعلية وحرية التعبير عبر الوسائل والوسائط الألكترونية ..

وكان النقد الفني وغيره من العمل الصحفي يتخذ منحى روتينياً ؛ يسيطر فيه القدامي وكبار السن وحدهم على الساحة . ولايسمحون للشباب بالتعبير إلا بعد تدجينهم بنسبة 80% لمصلحة القديم...

ولهذه الأسباب وبعضها الآخر ظل الإنتاج الفني والأدبي لدينا متقدماً على النقــد بمراحل.

ولا نكاد نلمس في هذا الجانب من قدرات " تفاعلية " سوى ما ينضح عن برنامج "ما يطلبه المستمعون) من مؤشرات على مدى النجاح الجماهيري للأغنية من عدمه.

قبل أغنية الجريدة وردحا طويلا بعدها ؛ كان الشعر الغنائي يركز في معظمه على حصر العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة في جانب العشق الشهواني في إتجاه واحد ....

تغزل الشاعر حسيا بمفاتن المرأة ويعلن إشتهاؤه لها . فيتفق معه الذكور في ذلك

وتفرح الأنثى بأنها مرغوبة ومطلوبة ... بوتقة العشق الشهواني والوصف الحسي هذه تظل ملاحظة غير خافية في أغنيات الحقيبة بوجه صارخ ...

وكذلك في الحقبة التي تلتها من موجة الشعراء الأفندية أصحاب الشعر العربي الفصيح الذين حاولوا التخلص من الغزل الحسي بإلجنوح إلى الرومانسية . ثم تلتها ورافقتها ظاهرة الرمز في شعر الغزل ...

وأحسب أن جميع تلك المراحل والموجات قد انتهت قبيل نهاية القرن الماضي ببضع سنوات ... ولتفسح المجال اليوم لمرحلة الشفافية الغير مقيدة في العلاقة بين الرجل والمرأة ؛ تقدمهما رفيقين متضامنين ووجهين لعملة واحدة ...... ولم يعد

لحرمان والإشتهاء وحدهما محور العلاقة. كذلك شهدت الفترة الأخيرة تنامي ظاهرة المرأة التي تكتب شعر الغزل في الذكر بشفافية لا تحسد عليها . بعد أن كان هذا الإنتاج العاطفي ذكورياً محضاً . وتقتصر مشاركة المرأة على الرثاء أو المدح والحماسة التي تخاطب الرجل وتتوجه إليه بصيغة الأب والأخ وعموم المحارم . لقد تميز الغناء القديم بتوثيقه لدور المرأة وحصره في الآتي:

1)السلبية في كافة جوانب العلاقة العاطفية مع الرجل.

2) إختفاء المرأة السودانية بت البلد من الشارع والأماكن العامة. 3) ندرة التعليم الأكاديمي .. وإعتماد المرأة على الرجل لتأمين مستقبل حياتها.

وعندما إنفعل الشاعر مع خروج المرأة من المنزل . لم يتمكن سوى من وضعها في مقام قطعة الأثاث أو كرتونة داخل عربة قطار ..

حذ على سبيل المثال قول الشاعر ابو صلاح .. وغناء زنقار.

من بف نفسك يالقطار ... ورزيم صدرك يا القطار إنت شلته جيبه يالقطار لاحظ تعبير "إنت شلته " و "جيبو" يالقطار..... ومن حقنا أن نتساءل أين المرأة "الإنسان" بجلالة قدره هنا والتي تمشي على قدمين؟

فالشاعر يصورها هنا على أنها "شيء" يحمله القطار .. وأنها "شيء" يعيده القطار, إنها نفس الصورة التي أرسلها لنا الشعر الجاهلي ؛ الذي كان يسائل الربع ويبكي على الأطلال والدمن .... ويخاطب المرأة (الحمولة) التي في داخل الهودج على ظهر الناقة والبعير ... والراحلة.

وعلى ذات النسق ؛ نلاحظ في هذا البيت أن "قطار الفحم" لديه كينونة وشخصية وحق في التعبير والتصرف دونا عن المرأة ....

قاطرته تنفث عن صدرها بدخان الفحم الحجري تارة .. وبخار الماء الساخن تارة أخرى ..... وتطلق لصفافيرها العنان . أما المرأة (المحبوبة) الإنسان فهي بلا حول ولا قوة . ومجرد قطعة وكوم لحم لا إرادة لها ؛ لا ندري كيف كانت تجلس داخل عربات القطار صحبة أولياء أمرها.

وفي إطار التأكيد على مزايا الغناء السوداني لجهة التوثيق ... فقد تطورت " إمرأة القطار " في زمان أبو صلاح و زنقار أعلاه . فأصبحت في جيل الأفندية تكشف عن يدها من خلف نافذة القطارة .. وفي نفس الظرف المكاني نرى الشاعر الطاهر إبراهيم يوثق لنا عن تقدم لافت ؛ حين تغيرت الصورة فيما بعد وغنى له إبراهيم عوض "أبيت الناس":

قطاره اتحرك شوية شوية من بعيد بي إيـــدو شفته أشـّــر لـيّ بكت عينيه .... وبكت عينيّ

نلاحظ هنا بروز دور يجابي نوعا ما للمرأة في جانب "الكينونة" ؛ فقـد أصبح القطار (على الأقل) قطارها هـــي .

ثم وتطور آخر في جانب شفافية العلاقة العاطفية مع الحبيب . حين لم تخشى المحبوبة في أن تشير إليه بيدها تودعه بعد أن إبتعد القطار مسافة أمنت فيها المحبوبة من هتك سرها .. ثم تبادل الحبيبان ذرف الدموع .....

نعم نرى هنا تفاعل محدود ، وحوار بين الرجل والمرأة (صامت) تارة ، و بلغة (الإشارة) تارة أخرى عند أعتاب الشعور العاطفي .. ولكنه يقف عند خطوط حمراء من الحذر ؛ يستغل فيها مقتضيات مشهد وسيناريو بعينه ، يتمثل في أن إمتلاء محطة القطار بالمودعين من الأهل والأقارب قد أتاح لمحبوبة الشاعر أن ترفع يدها ، وتشير بها وداعا دون أن يلومها أحد أو يحجر عليها أفراد أسرتها .... حيث أن بإمكانها هنا المجادلة بأنها تودع أهلها عامة.....

كذلك لايفوتنا هنا ذكاء تلك الفتاة الفطري ؛ حين لم تتجرأ على رفع اليد والإشارة للمحبوب (على طريقة المفارق عينه قوية) إلا بعد أن إبتعد القطار مسافة عن المحبوب . فضمنت بذلك عدم تهور المحبوب وإندفاعه في التجاوب مع هذا التصريح المكشوف (في ذلك الزمان) بمحبتها له ... فلك إذن والحال كان كذلك أن تتخيل كيف أتت الجريدة بإمرأة جديدة . تجلس لوحدها .. واثقة من نفسها .. تضع رجل فوق رجل . تقرأ الجريدة بتأني وحرص وشغف وصبر مثقف ذلك الزمان في عقد الستينات من القرن الماضي.

وليت السيناريو قد توقف عند ذلك الحد .. ولكن نلاحظ المدى الذي تقاربت فيه المسافة مع المحبوب ، وإنحصرت المساحة التي جمعت بينهما لأقل من متر مربع في أغنية الجريدة ؛ عند مقارنتها بسيناريو الإمرأتين في قطار زنقار و قطار إبراهيم عوض.

ومن ثم فبالإمكان القول هنا - أنه بمجيء الجريدة - فقد أصبحنا في واقع ومقام وزمان جديد......

هذا الواقع الجديد نراه يمس عادات وتقاليد راسخة لجهة التعامل مع "العورة" المرأة ... وقناعات من قبيل "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .. حتى يراق على جوانبه الدمُ" .

ذا الواقع الجديد الذي أظن أنه ما كان سيأتي على هذا النحو المتسارع السافر لولا ثورة 21 أكتوبر 1964م المجيدة ؛ وأثرها الجارف في إعادة صياغة المفاهيم التي كان من بينها منح المرأة حقوقاً في الحرية والمشاركة والتعبير ؛ ما كانت لتحلم بها .

كذلك فقد جاءت صياغة معاني الأغنية بكلمات دارجة شعبية بسيطة ؛ بمثابة المعين الذي أتاح لها الإنتشار السريع بين الناس ومختلف الأمكنة... يقول مطلع الجريدة:

سارحة مالك يا حبيبة ساهية وأفكارك بعيدة بقرأ في عيونك حياتي وإنتي مشغولة بجريدة

لاحظ كيف تغيرت الصورة من "إنت شلته جيبه يا القطار" ... و "من بعيد بإيده شفته أشر لي" .. و "بكت عينيه وبكت عينيّ"

إنها نقلة نوعية ملفتة هنا ، حين يستدعي العقل في قصيدة الجريدة حال إمرأة على بعد خطوات من الرجل ...

بتقري في إيه؟

كلميني يا سلام !!

مهتمة عاملة يعني لازم تقري هسا مقال بحاله وقصة كاملة؟ هي إمرأة لها الحق في أن تسرح بخيالها وتحلّق في سعة فضاءها الخاص بها... إمرأة لها الحق أن تكون لها كينونتها .... شخصيتها .. توقيتها ... مساحتها .... أفكارها الخاصة بها . إمرأة على هذا النحو من التعليم والثقافة والإستقلال . تسهب في قراءة ما يحلو لها من مقالات وقصص

ثم وبعد كل هذا إمرأة منعتقة لا تكبلها وساوس وقيود أنوثتها ؛ وهواجس عوراتها المغطاة والمكشوفة . فتظل متماسكة ذات شكيمة قوية ... لا تفقد تركيزها .. ولا تلملم ثوبها ؛ وتضمضم ركبتيها هلعاً من حضور الرجـل الشيطان إلى المكان ... وليته كان رجلاً عابراً ... ولكنه يفكر فيها متعلق شغوف بها ؛ يقرأ في عيونها حياته. والظرف المكاني هنا فيه متسع بلا منتهى من الخيال .... فالمرأة هنا تجلس وحدها دون حسيب ولا رقيب يعد عليها أنفاسها ؛ ويحصي نظراتها ولفتاتها .. قد تكون جالسة في مكتبها ... في مقهى ... في ردهة فندق .... وقد .... وقد .. لكنها في نهاية الأمر حرة طليقة واثقة من نفسها .. ولها بالمجمل شخصيتها وكينونتها وليست مجرد "كرتونة" أو "شنطة حديد" داخل عربة من عربات قطار الفحم ... أو لا تملك من أدوات التعبير عن ذاتها سوى لغة الإشارة في "أبيت الناس" ... لا بل وتبقى كلها على بعضها ليس أكثر من "زينة وعاجباني". ولجهة النقلة التعليمية والثقافية للمرأة التي قدمتها أغنية الجريدة ... فلك أن تقارنها بإمرأة أغنية "المنديل" من غناء سيد خليفة . التي تقدم لنا إمرأة توثق الكلمات عدم إلمامها بالقراءة والكتابة . فما كان منها سوى التعبير برموز "العصر الحجري" عن مشاعرها على هيئة صورة قلب وسهم نحيل. رسل لي هدية لطيفة خلت قلبي يحن ويميل حرير أبيض مشغول بقطيفة صورة قلب وسهم نحيل زكذلك كان الحال مع إمرأة الطير المهاجر التي غناها محمد وردي ... المرأة التي لا خيار لها سوى إنتظار حبيب بعيد ؛ دون أن تفكر في إستخراج بدل فاقد كما يحلو لبعض بنات اليوم. ميزة "الجريدة" أنها تكاد تكون صالحة للتعبير عن كل زمان ومكان ... حالة إنشغال إمرأة الجريدة إذن نجدها شبيهة إلى حد بعيد بأمرأة هذا الزمان التي تحمل الموبايل الذكي ، وتنشغل بالواتساب والفيس بوك والإستغرام .. تدخل إلى وسائط البحث و اليو تيوب وتتصفح المواقع كما تشاء .... الإختلاف بسيط جدا محوره "إختلاف الأداة" فتلك جريدة وهذا موبايل ذكي. وهو ما يؤكد بالفعل أن أغنية الجريدة؛ وإن كانت قد وثقت لجانب من جوانب تعليم وعمل وثقافة المرأة ، ونضجها العاطفي . وتفاعلها مع قضايا المجتمع وأطروحاته المتعددة في حقبة الستينات من القرن الماضي .... إلا أنها تظل من بين تلك الأغنيات النادرة التي إحتفل بها شباب زمانها .... ثم عكفت الجريدة تنهل من إكسير الحياة؛ لتبقى شابة فتية جميلة متدفقة العطاء تزهو بمرامي كلماتها إلى يومنا هذا. ولجهة العلاقة الشخصية ما بين كلمات أغنية الجريدة من جهة والموسيقار محمد الأمين من جهة أخرى ؛ نستعيد أيضا كلمات هذا الكوبليه : بتقري في إيه؟ كلميني يا سلام !! مهتمة عاملة يعني لازم تقري هسا مقال بحاله وقصة كاملة؟ أداء محمد الأمين لهذا الكوبليه ؛ أعتقد أنه هو الذي يحدد بوضوح ويجيب على تساؤل حسين خوجلي له "ماذا فعلت فيك الجريدة؟" المتابع لإداء محمد الأمين لهذا الكوبليه ؛ يكتشف أنه قد تفاوت ما بين عقد الستينات (المسجل في هنا أمدرمان ) ... مقارنة مع التسجيلات لأداء نفس الأغنية في عقد السبعينات .. مروراً بحفلة لندن الأولى .. وإنتهاءاً بتسجيلات متلفزة مطلع القرن الواحد وعشرين. والذي يلاحظ في كل هذه المراحل هي الكيفية التي ردد بها جملة "كلميني يا سلام". يلاحظ إختلافاً كبيراً في الأسلوب ... فهو يرددها في عقد الستينات (كلميني يا سلام) بأسلوب في غاية الحذر والموادعة ؛ ربما خشية أن يرفضها المجتمع ... ورغبة منه في تأصيل مفهوم إيجابي لدى المتلقي يجعله يتقبل هذه المرأة الجديدة. وينكفيء محمد الأمين على نفسه في عقد السبعينات . فيستنكر إنشغال صاحبة الجريدة - أؤكد إنشغالها فقط - وإهمالها لوجوده إلى جوارها .. فنلاحظ أنه يردد نفس الجملة مع زيادة المـد في "كلميني " و " يا ســلام" .... لاحظ كذلك أنه يتوقف برهة بعد كلميني (كأنه يضع نقطة) قبل أن يردد "ياسلااااام" بإستنكار وتهكم. كذلك يعمد محمد الأمين (في نهاية السبعينات) إلى رفع وتيرة وأسلوب التعبير عن الإحتجاج في ترديده عبارة "ليـه ؟ ... ليه؟" . عندما لا يجد من صاحبة الجريدة تجاوباً أو ردوداً مقنعة على أسباب إنشغالها عنه بإهتمامات ثقافية أو حتى متابعة مناشط إجتماعية. و بمعنى أوضح . فإن محمد الأمين يتفاعل على هذا النحو (المُتجدّد) مع إمرأة الجريدة على قناعة بأنها تتخذ في كل حقبة شكلاً يختلف عن السابقة لها. في عقد الستينات كانت يبشر بها. في عقد السبعينات كان يعمل على تثبيتها ومعالجة مكامن النقص التي تتطرأ عليها. في التسعينات من القرن الماضي أصبح يتعامل معها كأمر واقع ... وهكذا تراوح أسلوبه في تأديتها على نحو ظل يسعى به جاهداً لترجمة مقاصد الشاعر. وأرى محمد الأمين منذ بداية الألفية رالجديدة وإلى يومنا الماثل وكأنه أصبح على قناعة راسخة بأنه قد أدى رسالته تجاه إمرأة الجريدة ؛ فصار راهداً في مناكفتها .. ولايحمل تجاهها من مشاعر سوى قناعاته الحضارية بنموذجها ، وتقديره لفضلها .... . وفرحته بثمرات أبناءها وأحفادها. هكذا إذن يجري الإنتقال بهذه الأغنية عبر الأجيال . وتوليد المعاني والأفكار منها طوال (50 سنة) . دون حاجة إلى أن يضطر شاعرها إلى إدخال تعديلات عليها ولو بكلمة واحدة ..... وهما تكمن عبقرية محمد الأميـن وندرة أمثاله. وهكذا فعلت الجريدة في الشعب السوداني . فكانت إضافة لايستهان بها .. فهي لم توثق فقط لتطور المجتمع .. ولكن محمد الأمين صب فيها كل عصارة عمره وفنونه الإبداعية لأنه صـدّق بها ثورة أكتوبر وآمن بحتميتها إيمان العجائز . وهكذا أصبح على إصرار غير مسبوق بضرورة التبشير بها .. وتكريسها .... وظل مهموماً وحده بمعالجة جوانب الخلل اللاحقة التي طرأت في شخصيتها المتمثل في إهمالها لبعض جوانب علاقتها العاطفية مع الرجل . وربما كان لها العذر في ذلك لكونها قد أضافت على عاتقها المزيد من الأعباء ما بين البيت والأسرة والعمل .... ولكن ربما أصبح هذا الحال متوافقاً مع شباب اليوم من الأزواج الذين يتفهمون هذا الواقع ، وضرورة مشاركة الرجل المرأة في القيام بأعباء المنزل والتربية... وأن تصبح المسئولية على المناصفة. على أية حال فالموضوع يظل متشعباً ولا يزال شائكاً يحتاج إلى أسفار .. فليس كل الرجال على إستعداد لهضم وإستساغة طعم صاحبة الجريدة..... ولا نستطيع الزعم بأن "إمرأة الجريدة" قد كانت الخيار الوحيد للمجتمع فيما بعد .. كان هناك أكثر من رافض .. وأكثر من مستصعب لفكرة القبول بإمرأة الجريدة .. فإنطلق يبشر بفتاة الثانويات بدايات عقد الثمانينيات من القرن الماضي . واستمر الحال ردحاً من الزمان .. ولا تزال العلاقة محل أخذ و رد حتى يومنا هذا. والشاهد أن أغنية الجريدة كانت قد تغلغلت في مفاصل المجتمع .. ولم يعد بالإمكان العودة إلى الوراء للتوقف عند إمرأة "قطار الفحم" عند أبوصلاح وزنقار .. أو فتاة "الإشارة" عند الطاهر إبراهيم ، و إبراهيم عوض .. وتلك التي توقف بها الزمن "تشتغل منديل حرير لحبيب بعيد" في أغنية الطير المهاجر. ولكن من جانب آخر ؛ فلا أحد ينكر أن الفتاة الجامعية "صاحبة الجريدة" . المغرقة في الثقافة والتخصص الأكاديمي ؛ كانت قد بدأت (نهاية عقد السبعينات) تفقد موقعها العاطفي والرومانسي لمصلحة بنات الثانويات " المنقـة " .. وهو ما حدا بشاعر معاصر لفضل الله محمد هو "إسحاق الحلنقي" ليدفع إلى الساحة بنموذج الفتاة طالبة الثانوي ؛ بوصفها دافئة تلقائية خفيفة مرحة ، مشبوبة العاطفة ، بسيطة .. منطلقة .... جريئة .. لا تشغل نفسها بمنشاط الإتحادات النسوية ... لاتخشى ضربات الشمس ، ولا تخاف من ساعات الغروب بعد دروس العصر .. تعشق الساحات العامة وتتنفس الهواء الطلق .... وليوثق لهـا بقوله: " حليلك وإنت جنبي بالـــزي السماوي" ....... والتي تغنى بها المطرب إبراهيم حسين. ويقول مطلعها "مع ساعة الغروب مشيت أسأل عليكم". وربما لا يفطن البعض أن الزي السماوي هنا ؛ إنما كان المقصود به الزي المدرسي الرسمي الذي ترتديه الفتاة في المرحلة "الثانوية العليا " ، بدايات تطبيق السلم التعليمي الجديد في عهد جعفر نميري ولسنوات طويلة.

لاشك بان موضوع الحب والعاطفة النبيلة لجيل مضي كانت هي تعبير صادق من احب فى ذاك الزمان الغض النضر .. ليت عبير تلك الايام يعود لتعود لنا احلام الصبا بعبق عطره الجميل جمال ذاك الزمان الذى لا نعرف فيه الا قصص الغرام المر ...

وسوم: 638