تأملات تربوية في (صاحب الجنتين)

  كيف بدأ الحوار بين المسلم وصاحب الجنتين ، وماذا كانت النتيجة؟ إنه موقف تربوي رائع يعلمنا الوقوف على الحق والتزامه وإن جاء الموقف متاخراً ، كل خطأٍ يمكن تلافيه ما لم نغرغر.

1-    ضرب المثل: إن ضرب المثل كما مر معنا في وقفات كثيرة يُجلّي الموقف ويوضح الفكرة ويقرّبها إلى الأذهان ،وكان ضرب المثل هنا توضيحاً لمعنى الآيات التي سبقت القصة :

        فلا بد من مصاحبة المؤمن الذي يدعو ربه في كل حالاته وكل وقته ( يدعون ربهم بالغداة والعشي)،فهو – سبحانه- نصبَ أعينهم وقلوبهم معه يرجون لقاءَه ويسعون إلى مرضاته ،لا يعيرون الحياة الدنيا ولا زينتها اهتماماً ، ولا يأبهون للمتاع الدنيوي،همُّهم الآخرة والوصولُ إليها ، ويعلمون ان الحق من ربهم فيلتزمونه يرجون رحمته ويخافون عذابه فهم بين رجاء وخوف ، يعلمون أن من ظلم وكفر أحاطت به النار فلا مهرب منها ومن آمن وعمل صالحاً كان من الفائزين الناجين

2-    وضوح التصوير ودقته: فللكافر جنّتان كاملتان في توزيع الشجر والأعناب والزرع ، وثمارهما كثيرة يانعة :

أ‌-       فيهما أنواع الاعناب من كرز وعنب وخوخ و..

ب‌-  حولهما سور من النخيل المغدق الثمر يحميها من الهواء والاتربة ويلطف حرارتها.

ت‌-  بين الأعناب والنخيل أنواع الزرع ذات المحصول الوافر.

ث‌-  استفاد صاحبهما من كل شبر فيهما فاستثمره واستفاد منه.

ج‌-    أغدقتا ثمارهما فكثر في كل أيام السنة .

ح‌-    وتفجر خلالهما نهر يتلوّى في أنحائهما يمنة ويسرة ،وشمالاً وجنوباً .

        إنها صورة واضحة ودقيقة المعالم لهاتين الجنتين اللتين اتسمتا بكثرة خيرهما.،            فهل حمد الرجل ربه وشكره أو تراه كفره وأنكره؟! وهل أحسن للناس فأكرمهم وتواضع لهم ،أو تراه تكبر وافتخر، وتعالى وتجبّر؟!   

3-    الحوار : أسلوب اتصال يجمع بين المراجعة والنقاش للوصول إلى الحقيقة أو الأكثر صواباً ، وقد يكون بين مختلفِين فكراً ومنهجاً وأسلوباً ، أو بين متفقين فكراً ومختلفين منهجاً وأسلوباً ، أو بين متفقين فكراً ومنهجاً وختلفين أسلوباً . أما هنا فالاختلاف في كل النواحي فهو حوار بين كفر وإيمان ، فلا بد من تباين المنهج والأسلوب كذلك.

والحوار يعتمد السماع والرؤية ، وله جمهور يتابع طرفي الحوار ويميل إلى هذا أو ذاك حسب الاهتمامات المتعددة والمشارب المختلفة ،

والحوار هنا بين صاحب الجنة الكافر الذي ظلم نفسه بالكفر وتناسى فضل الله عليه وأنكره، وتمادى في التكبر على صاحبه ولم يُراعِ حسن الضيافة وأنكر البعث والنشور  واستبعد هلاك نعيم جنّتيه اللتين بذل فيهما جهده لتكونا على ما هما عليه ومن خير وفير وجمال أخّاذ.

الكافر يستبعد فناء الجنتين وينكر يوم القيامة ثم يقيس - خطأً - غناه في الدنيا بوجوب إكرامه في الآخرة – إن كان هناك آخرة، حسب زعمه - فهو يعتقد أن الغنيَّ يبقى على كل أحواله هكذا وأن سعيد الدنيا  لا بد أن يكون سعيداً في كل أحواله!.

ونرى المسلم يجيب بقوة وفهم لمعاني الحياة :

أ‌-       لا وجود إلا بواجد ،ويذكر القاعدة الأصلية ( لا بدَّ لكل حادث من مُحدِث).

ب‌-  إن الكفر بالخالق إغلاق للفهم وعودة للبهيمية الأولى.

ت‌-  إن العاقل يفكر تفكيراً سليماً فيصل إلى حقيقة الوجود ويعلم حق ربه في العبادة.

ث‌-   والعاقل من يشكر المحسنَ إليه ويقر بفضله.

ج‌-    والمسلم العاقل يعلن بإصرار وإيمان ثابت ولاءَه لله تعالى وأنه عبد من عباده.

ح‌-    والعاقل – كذلك – لا يبطر ، فالبطر ظلم الحق وحَيْدَة عن السبيل.

خ‌-    من بارى الله تعالى وحاربه خسر وخاب وندم حيث لا ينفع الندم.

د‌-      ومن لجأ إلى مولاه كفاه وأكرمه .

ذ‌-      ولا بد أن يُعاقب الجاحد إن عاجلاً أو آجلاً.

ر‌-     يدعو على الظالم – إن أصر على فساده،والدعاء سلاح المؤمن

4-    حسن الأدب: من الأدب أن يتواضع الرجل لضيفه ويظهر له الاحترام ويقدمه على نفسه في الفضل ما دام عنده وأن يكلمه بلباقة ويتودد إليه ، هذا أقل ما يُقال في حسن الأدب ،

لكننا نرى صاحب الجنتين يفجأ صاحبه وهما يدخلان الجنتين بالتعالي عليه والفخر بماله وكثرة أتباعه :" أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً " وليست وفرة المال ولا كثرة الاتباع برافعٍ أحداً مكانةً ، ولا معزّاً قدراً ، وهذا ما نعاه القرآن على هؤلاء حين قال في سورة الفجر " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول : ربي أكرمَن! وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقَه فيقول : ربي أهانَنِ" فيأتي الجواب مصححاً " كلاّ.."فلا يكون هذا ولا ذاك ، إن الذي يرفع المرءَ ويخفضُه أخلاقـُه ليس غير. فهي المعيار الحقيق في حياة الفرد والأمم.

ويزداد سوء أدبه حين يخالف قاعدة الحياة التي قُرِّرَتْ منذ الأزل: (ما له بداية له نهاية) فما دام صاحب الجنتين أنشأهما واعتنى بهما، فقد بدأتا في زمن محدد ، ولسوف تنتهيان في أمد محدد، فلاينبغي للعاقل أن يخالف الحقيقة ويدّعي بلاهة ما لا يمكن أن يكون.

5-    الدعاء مخ العبادة: ، يطلب المسلم من الله ما يريد ، فهو يعلم أن حياته ورزقه بيده سبحانه، فيسأله كل شيء حتى ملح الطعام ، ( إذا سألتَ فاسأل الله ، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله) وتستفيض النفس المظلومة حين ترى المتكبر يتطاول على خالقه فتدعو ملك الملوك أن يحِقَّ الحق ويبطل الباطل ، ويرجو المسلم ربه أن يعاقب المفتري وأن يرزقه – هو – خيرا مما أُعطي للكافر ..

ويستجيب الله له فتنتهي القصة في لحظات يسيرة..تهب ريح عاصفة تدمر كل شيء بإذن ربها ، فلا زرع ولا نخيل ولا أعناب ..ولا أوراق ، تغير المكان فصار أجدب قاحلاً ، وغاض الماء ، فلا نهر ولا حياة!.

6-    هل ينفع الندم: كفَرَ بالله فعوقب في الدنيا بما لم يتوقعه ،ومن يستطيع محاربة السيد المطلق؟! ، ( اعلم أن الأمة جميعا لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ، ضاع كل شيء في لمح البصر ، وهو الآن يتقلب على جمر الغضا ، ما أراد الله لا بد أن يكون. ومن حسن حظه أنه عوقب في الدنيا ، وما يزال حيّاً ، ولعله يتوب إلى الله ويستغفره ، إنه لم يغادر الدنيا ، فما زال في الوقت متسع،..أجل لقد قالها: " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً " وتصور معي موقفه الحزين وهو يقولها ويقلب كفاً على كف حسرة وألماً على ما أنفق فيها فضاع كل شيء بلمحة عين ..لكنه إذ يقر بخطئه ويملأ الأسى قلبه يقول يا (ليتني) ولم تنفع (ليتُ) ولن تنفع ، وسينفع (عسى) المستقبلية فمن تاب إلى الله واستغفره وأناب إليه غفر الله تعالى له ما مضى ، فليبدأ من جديد ..

وسوم: العدد 663