خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 109 : طريقة غريبة للتعارف ( قصة واقعية )
كانت الساعة الرابعة ظهرا عندما بدأت أقرع جرس شقة جاري ديمتري عدة مرات ولكن دون أن أسمع أية إجابة من طرفه ، في تلك اللحظات كانت جارتي التي تقيم في الجانب اﻵخر من الشقة التي أقرع جرسها قد عادت من عملها فما أن رأيتها سألتها عن آخر مرة رأت فيها جارنا ديمتري ، فأخبرتني أنها رأته قبل ثلاثة أيام أو أربعة ، فسألتني عما يحدث ، فأخبرتها بأنني أعتقد بأنه داخل بيته وأن شيء مكروها قد أصابه. في البداية إستغربت اﻷمر وكان رأيها في تعليل سبب غيابه أنه ربما قد سافر إلى أحد أصدقائه أو أقربائه ليقضي هناك بضعة أيام.
تبرير جارتي هذا ﻹختفاء جاري ديمتري لم يكن بالنسبة لي مقنع أبدا. ﻷنني كنت أعلم تماما بأن جاري هذا بعد وفاة أمه كان قد قطع جميع علاقاته مع أقربائه وأصدقائه، أو ربما -وهو اﻷصح على ما أعتقد - أن أقربائه هم الذين إبتعدوا عنه ، بسبب سوء أخلاقه وسوء معاملته لأمه والتي كانت نتيجتها تدهور حالتها النفسية والصحية ووفاتها بشكل مفاجئ.
كان جاري ديمتري اﻹبن الوحيد لعائلة ميسورة الحال ، وبسبب طبيعة سلوكه البعيد عن اﻷخلاق الحميدة ، إنفصل عن أهله في العشرينيات من عمره وذهب إلى أحد الجزر اليونانية بحجة العمل هناك ، لكي يفعل ما يحلو له دون أن يعلم والديه شيئا عن طبيعة حياته الفاسدة ،فرغم أنه قد أخبر أهله بأنه يعمل رسام ولكن مصروف حياته بشكل كامل كان يأتي شهريا من أهله. ورغم وفاة والده قبل أكثر من عشر سنوات من الحادثة ، ترك أمه تقيم بمفردها في أثينا ليتابع حياته الفاسدة بعيدا عنها.
كنت أعرف أمه معرفة جيدة فهي صاحبة الشقة التي أقيم فيها والشقة الأخرى بجانب شقتي ، أما هي فكانت تقيم في شقة كبيرة تبعد عن مكان إقامتي بضع دقائق سيرا على اﻷقدام ، وكنت في بداية كل شهر عندما أذهب إليها ﻷدفع لها أجار البيت كانت تطلب مني أن أجلس قليلا ﻷشرب القهوة معها ، ويبدو أن سكنها بمفردها كان يجعلها تشعر بالكآبة والوحدة فكانت في تلك الدقائق تتحدث معي وكأنها تتحدث مع إبنها الذي هجرها ليسكن بعيدا جدا عنها ، كثيرا من اﻷحيان كانت دموعها تنساب من عينيها كلما تكلمت عن إبنها ، وكانت دوما تمدح به ومن خلال حديثها عنه كنت أتصوره إنسانا طيبا ، وهذا ما كان يجعلني أتساءل في نفسي لماذا لا يترك عمله ويأتي ليعمل في أثينا قرب أمه التي أصبحت بمفردها بعد وفاة زوجها، فأحوالهم المالية كانت جيدة جدا، تكفي لإقامة مشروع عمل يضمن له ربح يكفيه ﻷن يعيش بمستوى جيد.
وهكذا شاءت اﻷقدار أن يمرض ديمتري وأن يضطر لنقله إلى مستشفيات أثينا لإجراء عملية جراحية له ، وعندها فقط علمت اﻷم أن أبنها ليس لديه أي ضمان صحي ﻷنه لم يعمل في حياته ولا يوما واحدا وعلمت أيضا أن سبب إبتعاده عن أهله لم يكن بسبب العمل ولكن بسبب حياة الفسق التي كان يعيشها ، فقد أخبرها اﻷطباء بأن إبنها مدمن مخدرات منذ زمن طويل ، وهكذا فجأة تحطمت تلك الصورة الجميلة التي كانت تحملها في مخيلتها ﻷبنها ، لتشعر بخيبة أمل فظيعة وهي تكاد تعلم ﻷول مرة أن إبنها طوال تلك السنوات التي كان بعيدا عنها كان يخدعها ، فكل شيء أخبرها إبنها عن نفسه حتى ذلك الوقت كان كذبا في كذب.
منذ ذلك اليوم تحولت هذه اﻷم المسكينة من سيدة أرستقراطية بكل معنى الكلمة إلى إمرأة عجوز لا حول لها ولا قوة ، فبدلا من أن تصبح حياتها أكثر سعادة بسبب قدوم إبنها ليعيش معها بعد شفائه ، أصبحت أحوالها أسوأ بكثير ، حيث وصلت بها اﻷمور أنها لم تستطع أن تتحمل سوء معاملته لها وخلال عام واحد وبضع أشهر كانت اﻷم قد فارقت الحياة.
بعد وفاة اﻷم ذهب اﻹبن يبيع بالتدريج ما يملك من الميراث وخلال سنوات قليلة كان قد أفلس تماما فأضطر عندها أن يأتي ليسكن في الشقة الصغيرة بجانب شقتي ، وبسبب سوء حالته المادية أصبح بلا أصدقاء، وبسبب سوء سلوكه أصبح بلا أقارب ، وكان هو أيضا يتهرب من محادثة الجميع ، وكأنه يخشى أن يسأله أحد عما حدث بثروة أهله ، فمعظم النساء المتقدمات بالسن المقيمات في البناية كن يعرفن أمه معرفة جيدة، وربما لهذا السبب كان لا يريد التكلم مع أحد من الجيران.
رغم أنه كان يكبرني بسنوات قليلة ولكن سلوكه وطبعه السيء جعلني لا أثق به من جميع النواحي لذلك كنت أحاول دوما أن أبتعد عن تكوين أي علاقة صداقة معه ﻷنه وللأسف كان ينتهز كل الفرص التي ستسمح له بتحقيق أي شيء من مصالحه ، وكنت من أجل أمه المرحومة فقط أساعده ماديا قدر اﻹمكان ليستطيع تأمين حاجاته من طعام ومصاريف تكاليف الحياة من دفع فواتير الكهرباء والماء ﻷن مبلغ آجار البيت وحده الذي كان يأخذه مني لا يكفي لجميع هذه النفقات.
عادة كان كل أسبوع يطلب مني دفعة من اﻵجار ليؤمن حاجاته ، ورغم أنه قبل يومين من ذلك اليوم كان قد طلب مني دفعة من اﻵجار ، ولكن لست أدري شيئا ما في داخلي كان يجعلني أشعر وكأن شيئا ما قد أصابه ، وهذا مادفعني منذ صباح ذلك اليوم كل فترة وفترة أن أتصل به هاتفيا ،أو أن أقرع جرس بابه لعلي أسمع منه شيئا ما يؤكد على أنه بخير ، ولكن حتى الساعة الرابعة من ذلك اليوم لم أشعر بأي أثر يمكن أن يجعلني أطمئن عنه.
أخبرت جارتي بأنني أعتقد بأن ديمتري داخل بيته وأنه ربما قد فارق الحياة ، وأنني أفكر أن أتصل بالشرطة لتأتي وتتأكد من هذا اﻷمر، عندما سمعت جارتي كلامي هذا شعرت بشيء من الفزع فرأيتها تطلب مني أن أتركها بعيدة عن هذا اﻷمر، ورأيتها تسرع وتدخل شقتها وكأنها لا تريد أن تتدخل في أي شي له علاقة بهذا الموضوع.
فزع جارتي وطريقة هروبها من المشكلة دفعني للحظات لا أعرف ماذا أفعل ، هل أتصل بالشرطة أم أنتظر بضع ساعات أخرى ؟ فجأة خطر على بالي أن أذهب وأخبر جاري المسؤول عن خدمات البناية فهو أيضا من رجال الشرطة وهو أيضا المسوؤل عما يحدث في امور البناية وسكانها ، فذهبت مباشرة إلى شقته ولكنه لم يكن هناك فأخبرت زوجته بما يحدث فإستغربت من ظنوني هذه ، فأخبرتني أن زوجها خرج قبل قليل وأنه لن يعود حتى صباح اليوم المقبل ﻷن لديه مناوبة في تلك الليلة ، وطلبت هي اﻷخرى مني أن أنتظر قليلا فربما جاري ديمتري قد ذهب إلى مكان ما وقد يعود في أي لحظة ، ولكن رأيها أيضا لم يطمئني فأخبرتها بأنه من اﻷفضل أن تأتي الشرطة وتتحقق من اﻷمر فربما جارنا ديمتري داخل بيته ويحتاج للمساعدة.
أتصلت بالشرطة وأخبرتهم بما يحدث وبعد عشر دقائق تقريبا أتت سيارة الشرطة وبها إثنان من رجال الشرطة ، وبمجرد أن علما بأنني أنا من إتصلت بهم راح أحدهما يسألني أسئلة مختلفة ليتأكد إذا كان إعتقادي بأن فكرة وجود جاري ديمتري داخل شقته وأن مكروها قد أصابه تستند على إثباتات قوية ، ﻷن دخول الشقة يحتاج إلى كسر قفل بابها ، وأنه شخص ما من طرف صاحب البيت يجب أن يتكفل بهذه المصاريف ﻷن فتح الشقة ليس من مسؤولية الشرطة. عندها أخبرتهم بأنني سأتكفل بنفسي بهذه المصاريف. فوافق رجال الشرطة على ذلك، وإتصل أحدهم بأحد المختصين بهذه المهنة ليأتي ويقوم بفتح الشقة.
بعد قليل أتى المختص وبدأ عمله وخلال بضع دقائق تمكن من فتحه ، أحد رجال الشرطة دخل إلى الشقة وبمجرد أن تقدم بضع خطوات حول ببصره داخل إحدى الغرف فبانت مباشرة على ملامح وجهه أنه رأى شيء ما مؤثر ، فخرج من الشقة ونظر إلي وأخبرني بأن ظني للأسف كان على صواب وأن جاري ديمتري قد فارق الحياة فعلا.
طلب الشرطي من زميله أن يغلق الباب ويمنع الدخول على الجميع ريثما يأتي الطبيب الشرعي و رجال الشرطة المختصين بجرائم القتل ليتأكدوا فيما إذا كانت سبب الوفاة طبيعية أو بسبب جريمة قتل . ثم ذهب إلى سيارة الشرطة ليتصل بالمركز ليعلمهم عما يحدث.
رغم أن معظم سكان البناية رأوا سيارة الشرطة أمام مدخل البناية ولكن في البداية لم يعطوا اﻷمر أهمية ، فمن العادة في المجتمعات الحديثة أنه عندما ينزعج أحدهم من جاره لسبب ما - صخب وضوضاء مثلا - يفضل أن يتصل بالشرطة لتأتي وتنبه صاحب هذا الصخب ليتوقف عن إحداث الضوضاء واﻹزعاج.
ولكن في ذلك اليوم وبسبب قدوم سيارة شرطة أخرى ، شعر جميع سكان الحي بأن شيئا غريبا يحدث في تلك البناية ، فخرجوا جميعهم من بيوتهم وبدأ كل واحد منهم يسأل اﻵخر عما يحدث.
إحدى النساء سمعتها تسأل جارتي عن سبب تواجد الشرطة ، فأخبرتها بأن الشرطة إكتشفت أن جارنا " ديمتري" قد توفي داخل بيته دون أن يعلم أحد بذلك ، فسألتها من هو ديمتري ، فحاولت جارتي وصفه لها لعلها تتذكره ولكن رغم التفاصيل الدقيقة في الوصف لم تستطع المرأة الأخرى معرفة من هو المقصود بالضبط ، وأخبرتها جارتي أيضا بأن الشاب السوري هو الذي اتصل بالشرطة لتأتي وتتأكد من الموضوع ، فسألت المرأة جارتي عن الشاب السوري ، فأشارت جارتي نحوي فإستغربت المرأة فكانت تلك المرة اﻷولى التي تعلم بها أنني سوري وليس يوناني. ورأيتها تقترب مني لتسألني عما حدث.
جار آخر متقدم بالسن يبدو أنه قد تأثر جدا بما حدث ، فرأيته يقترب مني هو اﻵخر وينظر إلي نظرة مليئة بالتأثر ممزوجة بالحنان والشكر ويقول لي " نحن اليونانيون قبل أن ندخل في اﻹتحاد اﻷوربي كنا شعب إجتماعي مترابط ، الكبير يحترم الصغير ، جميع أهل الحي كنا كعائلة واحدة ، نتعاون فيما بيننا ، كنا عندما نسمع أن شخص ما أصابته مشكلة كنا نسرع إليه جميعنا لعلنا نستطيع مساعدته في حل مشكلته ، كانت قلوبنا على بعضها البعض ، الجميع يشارك في أحزاننا ، الجميع يشارك في أفراحنا......للأسف كل هذه الأشياء ذهبت وإختفت ، اليوم كل إنسان يرى نفسه فقط ، كل واحد يسأل عن مصلحته فقط، ... " ثم رأيته يهز رأسه حزنا ويقول " لو أنك لم تتصل بالشرطة تأكد بأنه لن يفعل شخص آخر ذلك ولكنا سنعلم عن وفاة ديمتري فقط عندما تفوح رائحة جثته ، عندها فقط وبسبب إنزعاج سكان البناية من الرائحة النتنة سيضطرون عندها من اﻹتصال بالشرطة لمعرفة سبب تلك الرائحة "
الشرطي المسؤول عن حراسة الشقة سمع كلام الجار فهز له رأسه موافقا ، وأخبره بأن في الفترة اﻷخيرة أصبحت تحدث الكثير من مثل هذه الحوادث ، وأن معظم اﻹتصالات بالشرطة كانت بسبب الرائحة النتنة. وليس بسبب قلق أصدقاء أو أقرباء المتوفي ، ثم إلتفت إلى الجميع وقال بصوت عالي وكأنه يريد أن يسمعه الجميع ( إحمدوا ربكم بأن جاركم شعر بوفاة المرحوم قبل أن تتعفن جثته وأتصل بنا في الوقت المناسب وأصر على فتح الشقة ، فكما يبدو أنه لم تمر على وفاة المرحوم أكثر من 24 ساعة فقط. ... ولو كنتم إنتظرتم حتى تفوح رائحته لكانت سببت لكم مشكلة كبيرة ، ﻷن رائحة الميت تبقى عدة أسابيع قبل أن تختفي . "
في تلك اللحظات يبدو أن كثير من سكان البناية شعر بفظاعة حقيقة الواقع الذي يعاني منه المجتمع الحديث ، فكثير منهم كان يعيش بمفرده ، اشخاص متقدمين بالسن هجرهم أبناءهم ، نساء مطلقات يعشن بمفردهن. معظم سكان المجتمعات الحديثة معرضين أن يمروا بنفس الحالة التي حدثت مع المرحوم ديمتري. يمكن أن يصاب بمرض مفاجئ يجعله يفارق الحياة ، قليل من أهله أو أصدقائه سينتبه على إنقطاع أخباره، و ربما معظمهم سيحاولون تجاهل أمره لكي لا يتكلف من أتعاب ومصاريف معرفة أسباب إختفائه.
من المؤسف له أن اﻷمور قد تطورت بشكل جعلت اﻹنسان لا يستطيع التفكير إلا بنفسه ، المسألة ليست فقط في سوء طباع الشخص نفسه ولكن جميع اﻷمور من حول اﻹنسان اليوم تجعله ضعيف البصيرة لما يحصل مع اﻵخرين ، وكأن هناك قوانين خفية دخلت المجتمع الحديث لتحطم جميع الروابط الروحية بين اﻷب وإبنه واﻷخ وأخيه ، والصديق وصديقه. ..جميع اﻹنتماءات الراقية ، اﻹنتماء العائلي، اﻹنتماء الوطني ، اﻹنتماء الديني ، اﻹنتماء اﻹنساني. . أصبحت تتحطم لتحل محلها إنتماءات مزيفة. . تعصب لفريق كرة قدم ، تعصب لحزب سياسي، تعصب لمذهب ديني. ..... كل القيم خسرت معانيها. ... كل الأشياء أصبح لها قيمة مادية فقط أما قيمتها الروحية فلا معنى لها. .. اﻹنسان أصبح كائن مادي لا يعترف سوى بالمادة ﻷنه يستطيع أن يلمسها ويراها ويتعامل بها بشكل مباشر بحيث يستطيع عقله أن يفهمها ببساطة. .. أما القيم المثالية واﻷخلاق الحميدة التي تحتاج إلى شيء من التأمل ، فأضحت أشياء غيبية لا يمكن الحكم عليها لذلك لا فائدة منها.
في ذلك اليوم كانت حادثة وفاة المرحوم جاري ديمتري الذي فارق الحياة بتلك الطريقة الفظيعة ، سببا في خروج أفراد سكان البناية ﻷول مرة من بيوتهم ليتعارفوا على بعضهم البعض ، ليعلم كل واحد منهم إسم اﻵخر ، وليعلم بأن إلقاء السلام على جاره والسؤال عن أحواله لن تضره في شيء بل ربما العكس ، فربما تجعله يشعر بأنه ليس وحيدا في هذا العالم وأن له أصدقاء يقيمون قريبا منه يهمهم أمره يفرحون لفرحه ويحزنون لحزنه ويودون مساعدته بقدر ما يستطيعون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف " من كان يؤمن بالله واليوم اﻵخر فليكرم جاره "
وسوم: العدد 694