أخي... روحك تسري معي
السلام على الصديق الوفيّ والخلّ الصفيّ، السلام عليك ما تحرك في القلب الشجن، وما بدد النور حالكات الفتن، أرسل إليك رسالتي وتباريح الشوق لكم لها رهجٌ في النفس وصليل، وها هي نفسي المكلومة تعلل اصطبارها باللقاء، وسوانح الدمع تهمي على جفاف المآقي، دموعًا على زمنٍ ولَى وفات.
أُخيَّ الوجـدُ هـتـّانُ ----- لهُ نشـجٌ وأشجانُ
أخيَّ أموتُ من كمدٍ ----- وهذا القلبُ هيمانُ
يفتّ في كبدي بُعد الخلان مع قرب الدار، واتفاق القلب والهدف والمسار، لكأننا في سفرٍ اضطررنا إليه مغلوبين، واتجهنا وسلاسل الواقع تغل اعناقنا صوب الصمت، ذلك السكوت الذي لا يعدم نُطقًا، ونُطقٌ لا يدري سكوتًا... صمت التنائي يقضّ مضاجع الخلّان، وأحلام الصبية في مساءات ذكراكم المؤنسة،لم تختلف قلوب الصبية من حينها، ولم تذبل وشائج الأخوة بينهم، ولكن تلك المساءات قد شاخت على غفلةٍ منهم، وشابت أيامها في لحظةٍ ما، ولم تبقِ سوى أطلالًا من الذكرى...والذكرى مؤرقةٌ...
لا شكّ أيها الصديق القديم قدمًا لا تحوطه فلسفةٌ ولا منطق، أن الأخوة نضرةٌ دائمًا، تجللها حللٌ من زبرجد ومرجان، أخالني أراها نخلةً باسقة من نخل بغداد على ضفاف دجلة، تراقب العابرين من دولة بني العباس، تودع جحافل وتستقبل أخرى، وترى ظلال من آبوا ومن غابوا، وتنتظر منذ ألف عامٍ من يرسل تمرها للقدس، فهناك يطيب لها المعراج من جديد صوب المنتهى... أخوتنا تفاخر الخلق وتشكر الخالق، سقياها ذلك التحنان المهيب الذي لا ينضب، إهابها شمسٌ سارت من خراسان إلى طليطلة، كابد الباهلي بعض لهيبها، ولمسح بطرف كمه حبيبات شفافة من عرق جبينه في ساعة ظهيرة، واستراح في ظلّ دوحة أندلسيّة بن تاشفين منها بعد عبوره للزلاقة... أخوةٌ من التاريخ والأدب تخبو وتثور، تبكي وتضحك، لا أراها إلا مزهرةً...
يدفعني ذلك الاصطخاب المتنامي، وتلك الرحى المفزعة التي تطحننا في دنيا غربتنا، لأتأمل علاقات الإنسان بالإنسان، وكيف تتقلب به الأنواء وتتقاذفه الأمواج، فتراه يشرّق ويغرّب، ويتعامل مع أخلاطٍ متنوعةً حدّ السآمة من البشر، يمرّ الكثيرون منهم مرورًا سريعًا، ولا يتركون من الأثر شيئًا، كمثل ذرةٍ من غبار تعلق بين ثنايا الملابس، هي ليست شيئًا يُذكر أبدا، وهي ذرة الانفجار الذي يزيح الملايين بقرار طائش، اتخذ الحرب لعبةً من حمم... وأقلّ القليل من يُخاطب لسانهم قلبك، وتشعر بأنهم يلامسون شيئًا مخبوءًا في كنه داخلك، كأن روحك تتعانق معهم في اتفاق دائم، تنطلق نحو السديم تكسّر حدود الواقع والمنظور، وتسمو في عوالم لا يحدها حدٌّ ولا أمد... هو تآلفٌ يعيبه زمنٌ يغطي فيها مأفونٌ الشمس بالغربال، يظنّ أنه بذلك يحجبها، ولا أعجب منه إلا من يصفق له ولصنيعه... لقد بعدت الدار بنا، وصعب اللقاء وما زلنا ندور بين دفتي الرحى، ندور معها وبها، تعتصرنا في مسارات ومسالك، تأخذ البعض لمسرات وآخرين تمضي بهم - والعياذ بالله - لمهالك...
ما لي وللرحى، وقد عقدت عزمي أن أبث لك اختلاجاتٍ كتمتها زمنًا، وشوق لعزيزٍ، يطلبه الفؤاد قبل أن ترنو إليه المقل... ولكنها عادة من يسير في طريق الأدب، ويحذو حذو كبار أهل الصنعة، نتلمس منهم فتات أعمارهم التي ولّت، فأخذنا عنهم الاستطراد الدائم، فيمضي بنا القلم كيف ما اتفق، ولم نأخذ عنهم علو البيان ورقة المعاني... ونسلو بأننا على الطريق، يا لهذا الطريق ما أصعبه...
أخيّ الألمعيّ، نطوي صفحات أيامنا في انشغالٍ وشده، وقد أيقظني كتابكم على تساؤلاتٍ كبيرة، وأسئلة تدور حول حياتنا وذواتنا، واختلاجاتنا... أسئلة تهت معها وفي تفسير الكثير منها، لا من عجزٍ عن الإجابة ولكن من خوف منها، فهي إجاباتٌ تُظهر ما كنا نضمره، إجابات تُذكرنا بما حاولنا نسياناه أو كتمانه... لقد أيقظت في نفسي عشر سنوات مضت كأنها أيام بل لحظات، ونبشت كلماتك اللدنيّة صور ذاكرتي المنهكة، أعاين ما يثور منها في ساعة، ولي نشيجٌ مكتوم يتلظى بأنفاسي الخافتة، ولسان حالي يقول ارحموا عزيز قومٍ حنّْ.... صور لقاءاتٍ وجلساتٍ متطاولة، وقراءاتٌ شعرية جالسنا بها مطر ودرويش والقباني، وقيمنا بديع النصوص ودرر النقولات، وخضنا نقاشاتٍ أخاذة لا انتصار فيها لذاتٍ ورأي، بل لقاءٌ وفوائد لا تملّ... أشعر بأننا كنا كبارًا على ما كان فينا من مشاكسة، وكان بنا أناةٌ على ما في الشباب من نزقٍ وطيش...
صبرًا! لعلّ الذي بالبُعْدِ أمرضَني ----- بالقُرْبِ يَوْمًا يُداوِيني، فيَشفيني!
واللهِ ما فـارقُوني باخـتيارِهِمِ ----- وَإنْمَا الدّهْرُ، بالمَكْرُوهِ، يَرْمِيني
يمضي زورق العمر في لجج لا شطآن لها، وضحكاتٌ أسمع رجع صداها في متاهات هذا الخوف... لا ينبغي أن نتركه يمضي هائمًا من غير محطة نتوقف فيها، نلتقط بها أنفاسنا المتهدجة، ونعبّ من هواء الحريّة، لن ألتفت لأشاهد ما فاتني في هذا السفر الخجول... فلا يمكننا أن نسمح للغربة أن تذرع أعمارنا ببعد لا يطاق، وأن نذرف الحنين على كراسي بالية تهتزّ بنا وتصدر صريرًا بائسًا، مشهديّة تعافها نفسي وتمجها مخيلتي...
هيا بنا يا أخي لنؤوب إلى ملاذ التلاقي، ونستظلّ بظلال الوصل من جديد، ولنجعل تلاقينا مشروعًا يجمع أشتات تفرقنا، ونضع أهدفًا نضرب بها فائدين، أولهما أن نجعل هذا المشروع هزيعنا في ما نكابده ونلقاه، وتلك الفسحة من التواصل الراقي، ونرمم الأطلال ونبث بها الحياة، لا أن نبكي عليها فقط. وثانيهما نساهم به وعبره في مشروع نهضتنا، ونضع مدماك في العمل لمجتمعنا الأعم، وبيئتنا الواسعة...
أكثرت عليك الكلام وأنا من تعوّد الصمت في سنيّه الأخيرة... أحبك الذي أحببتني فيه ولأجله، وأسأل الله تعالى أن ألقاكم وأنتم ترفلون في ثوب الصحة والعافية القشيب، وأن يجمعنا في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله، وأن نكون من الذين يجلسون على سُررٍ متقابلين، عالينا ثيابٌ سندس واستبرق...
دمت بحفظ الله ورعايته.