حقوق القرآن (4)
خطبة الجمعة 14 / 3 / 2014م
د. محمد سعيد حوى
بين يدي القضية التي نتحدث عنها؛ حقوق القرآن العظيم، نؤكد على استحضار الغايات والمقاصد من ذلك :
أننا مسؤولون عن هذا القرآن ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]، وأن لا هداية إلا بالقرآن العظيم، وأن نحمل رسالة الإصلاح التي أُمرنا بها، ويحيط بذلك كله تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وقد قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163].
ومما يستوقفنا في هاتين الآيتين الكريمتين أنه أكد على الصلاة والنسك، والصلاة جامعة لكل معاني الإيمان والعبادات، ففيها تحقيق حقيقة التوحيد والإيمان بالرسل، إذ نتشهد في صلاتنا ونصلي على محمد r وإبراهيم، ونسلم على جميع الصالحين، وفيها تحقيق معنى المجتمع الواحد المؤمن، وهي التي فرضت في السماء، وهي التي لا يمكن أن تسقط عن المكلف بحالٍ، ثم تأتي الصلاة بمعانٍ: منها: الذكر والدعاء ومطلق الصلة بالله، ثم ذكر النُسك، والنُسك يشمل الحج والعمرة، والأعمال الواردة في الحج والعمرة، وما يُتقرب به إلى الله من أضاحٍ وهديٍ وذبائح، وكذا يقال زاهدٌ عابدٌ متنسكٌ، وأصل النُسك أخذ من النسيكة: وهي سبيكة الفضة المصفاة التي صُهرت فصُفيت ، وكأن هذه النسك تصهرنا وتصفينا ، وبذكر الصلاة والنسك تعبير عن كل ألوان العبادات، ثم طولبنا أن يكون كل ذلك خالصاً لله تعالى، ثم يستوقفك في الآية عندما قال (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) مع أن الموت والحياة لا اختيار للإنسان فيه ، إذن ماذا وراء هذا الأمر، إن وراء ذلك أن يكون المحيا والممات لله؟ إذن معنى ذلك إياك أن تصرف أي جزءٍ من حياتك ووقتك وجهدك وتفكيرك وعواطفك ومالك إلا في ما يرضي الله، فلا تكون الحياة للشهوات المحرمة، ولا في ما يُغضب الله، ثم لتكون النهاية على ما يرضي الله، وإذا ضحيت تضحي في ما يرضي الله، مماتك لله أي ما تخلّفه من أعمالٍ تكون لله لا لنفع ورثتك إن كانت في غير حق.
وهنا قد يتسأل الإنسان لماذا فقط لله كل ذلك؟
فجاء الجواب لأنه (رَبِّ العَالَمِينَ )، والرب هو من يربيك وينميك، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، وكل شيء بيده، فكيف تصرف شيئأ من ملكه لغيره، وختمت بقوله ﴿ ... وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 163]، وإن كان ظاهر الخطاب لرسول الله r، الذي حقق المقام الأعلى في العبودية لله فإنها دعوة لكل منا أن يكون عنده التطلع الأكبر للسعي نحو الأولية في العبودية لله: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
وعليه إذ نتكلم عن الحقوق؛ حقوق القرآن لنعيش مع هذه المعاني كلها عبوديةً، هدايةً، تدبراً، عملاً.
وكنا قد تكلمنا عن تسعة حقوق:
القراءة، التجويد والترتيل، تحسين الصوت، التعلم، التعليم، التدبر، الحفظ، النصح، العمل.
لنصل إلى الحق العاشر: حق الاستماع إلى كتاب الله.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَ: «أَمْسِكْ» فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) صحيح البخاري.
عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» صحيح مسلم.
لماذا الاستماع ؟ لأنه عندما يتلى من قارئ مجيد حسن الصوت؛ تنساب معانيه وأنواره في القلب، فكان باباً من أبواب الهداية والخير، وهو نوع من أنواع عبادة الاستماع وبه يملئ الوقت.
الحق الحادي عشر والثاني عشر: الاجتماع عليه والمدارسة له.
لقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]
وللحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». صحيح مسلم 2699 و سنن أبي داود
لماذا المدارسة ولماذا الاجتماع عليه؟
فالاجتماع عليه: روح تسري بين الحاضرين فينهض أعلاهم بحال أدناهم، ويتبادلون ما يُلهم الله كلاً من فهمٍ وعلمٍ، ويشكل هذا مدرسة فكرية قرآنية واحدة فهو من أسباب توحيد الفكر والتصور، وهو أدعى إلى رسوخ المعلومة، لذلك حضنا القرآن والنبي r عليه ، ولأهمية هذا الأمر جعله شرطاً مهماً (عَنْ جُنْدَبٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» صحيح البخاري.
ولأهمية هذا الأمر جُعل من ثماره تنزل الملائكة والسكينة وتغشي الرحمة وذكر الله لهم في من عنده وجعله طريقا إلى التحقق بالربانية، أنت تقرأ في كل صلاة ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة:6- 7].من هم؟ قال تعالى ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ﴾ [النساء: 69].
فأن تكون ربانيناً هو أن تكون مع هؤلاء، ولاحظ عظم علاقتك مع الملائكة عندما تكون ممن تحفهم الملائكة وهم يدعون لك. ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾[غافر:7 - 9]، وأعظم من ذلك أن يذكرك الله ، هل استشعرت عظم هذا؟
الحق الثالث عشر: حق القيام به والتهجد به.
﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً ﴾ [الإسراء: 79]، فإنه لفت النظر من خلال قوله (به) إلى حق القرآن في هذا المقام.
انظر إلى قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ، نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ،أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً ،إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ،إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ [المزمل: 1- 6]
انظر كيف جاء الربط بين ترتيل القرآن وقيام الليل، من أراد التدبر ففي قيام الليل، من أراد الصفاء ففي قيام الليل، ومن أراد حُسنَ الحفظ ففي قيام الليل، فضلاً عن خصوصية التهجد لذاته.