بوح أليم
خطبة جمعة
بقي أن أتحدث إليكم حديثاً خاصاً، أرجو قبل كل شيء أن تسمعوني وأرجو أن تفهموني. أحب أن لا ينسى أحد، أحب أن لا يتأثر أحد، أنا الآن أبلغ من العمر الخمسين من العمر، عشت بينكم ولكم، فرضت على نفسي سلوكاً صارماً، طريقةً لا يقدر عليها، وأقول هذا تحدثاً بنعمة الله، وإذا حذفت كل شيء فلا أستطيع أن أحذف من حياتي السنوات العشرة الأخيرة، كانت لي آمال حدثتكم ببعضها، وطويت القسم الأكبر، مضنياً في مسيرة، كثيراً ما قلت لنفسي لعلك يا فلان لم تكن موفقاً في اختيار الموضوعات ولم تكن موفقاً في الأداء، وكنت أجرب تجربة، ومن جرب مثل تجربتي عرف الذي أعرف، ثم أقول لكم إن طريق الدعوة إلى الله زرع الداء في جسمي فيجب أن تعرفوا أن هذه حقيقة، منذ سنوات وبين إخواني في دير الزور قللت كلاماً قدمت فيه أخي وصديقي ورفيق طريقي المرحوم الدكتور عبد الكريم عثمان، وفي مسجد من مساجد دير الزور قلت: إن هذه الدعوة فيما يبدو لي كالقطة تأكل أبناءها.. وحين أستعرض رجال الدعوة أراهم مصرعين على الأرض أو رازحين تحت أعباء الداء، ذلك قدر، ولا أبحث في هذه الناحية، لكني أريد أن أقول لكم ومن غير مجاملة: إنني أشعر منذ زمن أنني غير مقبول وغير مفهوم لسبب إن مجتمعنا هذا يمكن أن نستعير له الوصف الذي وصف به تفسير الرازي رحمه الله فقد كانوا يقولون: إن تفسير الرازي فيه كل شيء إلا التفسير.. ومجتمعنا هذا فيه كل شيء إلا الإسلام، الواقع أن رواسب جاهلية وعقد والتواءات تُحسد عليها الأمة هي التي لا تلبس بالإسلام وما هي من الإسلام، وحين يجد الإنسان نفسه ضمن مجموعة من هذا القبيل بهذا الشكل تكون المسألة مهمة، كنت سابقاً ولا أدري إن كنت قلت لكم إني عشت مع شيخ المعرة أبي العلاء رحمه الله سبع سنوات أقرأ شعره ونثره، المهم أن تعرفوا أن مؤرخي الحضارة الإسلامية يقولون إن القرن الرابع الذي عاش فيه المعري عصر الازدهار والرقي والعطاء، هو أن الواقع أن هذه أكذوبة تاريخية ضخمة، فالحقيقة أن الجنوح نحو الانحدار كانت أشد ما يتمثل في عصر شيخ المعرة رحمه الله تعالى، كنت أعجب وأقرأ وأفكر هذا الإنسان الذي أثار نقاشاً طويلاً عاش وهو حي وما زال مستمراً بعد ألف وخمس أو سبع وعشرين سنة ما زال النقاش محتدماً للتعرف على صفة هذا المخلوق، حُلت مشكلته عندي، إن الرجل عاش في عصر فرض عليه أن يكون غير مكفوف، إنه عاش عصراً فيه ظواهر تُخيل إليك أن المجتمع مسلم، ولكن حقائق الأمور وبواطن الأشياء بعيدة جداً عن هذا الواقع، تواطؤ مع البيزنطيين، قتال وحروب بين أمراء المسلمين، تقاطع وتدابر بين البلاد الإسلامية، سلب ونهب وهتك أعراض وفتك، بكل ما تحمله هذه المعاني على الصعيد الشخصي، تجد غشاً في التعامل، وتجد حقداً وبغضاء، ومع ذلك تدخل المسجد فتغرك المظاهر، كان شيخ المعرة رحمه الله تعالى بما وهب من رهافة الحس وسلامة الإدراك يعلم بعد الفارق بين الصورة الوضيئة التي نزلت على محمد عليه الصلاة والسلام وطبقها في عصره، وبين الصورة الكريهة التي يعيشها، فمن أجل ذلك كان ولوعاً غاية الولوع بأن يرفض الواقع، إنك تُجرب أن تسير ضد التيار، وحين تملك الطبع الحر والخليقة المستقيمة والجبهة التي تناطح السماء والعزيمة التي لا تعرف الانحناء بين يدي المخلوقات بعد أن عرفت الانحناء لله، فمن الصعب أن تعيش في مجتمع زائف وكريه ومخرب كذلك المجتمع الذي كان يعيش في شيخ المعرة، كان يقول رحمه الله:
إذا قلتم محال رفعت صوتي وإن قلتم صحيح عطيت همسي
كهذا المجتمع، اكذب ودجل وافعل كل شيء تجد الآذان الصاغية، بل أكثر، ستجد من يمسح له أطراف ذيلك، ولكنما حين تريد أن تقول الحقيقة فأنت مضطر لأن تقولها بين أربعة جدران، إلى أن تقول همساً، وإياك أن ترفع صوتك، ومن أجل هذا كان رحمه الله حريصاً على أن يذبل هذه الدنيا وأن لا يكترث لها وأن يبقى وفياً لمبادئه، منسجماً مع آرائه ونظراته، كان يقول في أوائل اللزوميات:
وما لي لا أكون وصي نفسي ولا تعصي أموري الأوصياء
وقد فتشت عن أصحاب دين لهم نسك وليس بهم رياء
فألفيت البهائم لا عقول تنير لها الطريق ولا ضياء
وأرباب الفطانة في اختيال كأنهم لقوم أنبياء
إن الرجل عاش مجهولاً في عصره، فمن أجل ذلك عاش ومات مهضوم الحق، وهذا شيء أقوله لكم، بعد الآن لن تسمعوا مني شيئاً إن شاء الله، كنت أدرس في الجامع الوطني درسين في الأسبوع، فلن تكون ثمة دروس بعد اليوم، الشوط الذي قطعته في هذه الخطب سيكون يتيماً بإذن الله، وغاية ما أرجوه أن ألقى الله تعالى على هذه الحال، ليس عاراً أن أقول لكم أنني لم أعد أحتمل، جسم مسقام كثير الأمراض، وأناس لا يتقون الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، أقول هذا وأعيد أليس من الحق أنني أخطأت اختيار الساحة وأخطأت استعمال الأداة، نعم، أنا الآن قريب من الخمسين، لم أترك للناس من بعدي إلا هذه الشرائط التي تسجل، وبين أنملين قلم لو جرى لجرى الذهب معه، ولو جرى لخط في التاريخ خطاً، أحب أن تعلموا إن الناس ثلاثة، واحد يسمح للتيار أن يسحقه، أي مسلوب الإرادة، وواحد يترك على التيار بصماته، وهو خير من الأول، وواحد يصنع التيار، ليس من باب التمدح ولكن لأعرفكم بطبيعتي، أنا ليست من الذين يحنون رؤوسهم للرعاع وليست من الذين يتملقون عواطف الناس، ومن هذا المكان منذ سنوات قلت لكم: يا إخوتي والله كدت أقول ما قال ذلك العالم في بغداد حين قرر الرحيل من بغداد: لو وجدت عندكم رغيفاً آكله من الصباح ورغيفاً آكله في المساء ما فارقتكم.
والله ثم والله ثم والله فقد عشت لكم ومن أجلكم ابتغاء مرضاة الله ظروفاً لا يتحملها بشر، ومع ذلك انتهيت، ذهبت القوة وانقطعت المنة، وأنا الآن بحاجة إلى أن أعيد حساباتي من أولها إلى آخرها، أنا واثق ابتداءً أنني كنت أحب أن أعمل في هذا الميدان وأن لا أسمح لملكة الخطابة أن تعدو على ملكة الكتابة، وما يجد بعضكم من متاع ولذة بالاستماع إلي مرة أو مرتين في الأسبوع كان يمكن أن يكون ما هو خير منه وأبقى حين أترك للناس نتاج عقلي وثمرة تفكيري بل ثمرة فؤادي ووجداني شيئاً يُقرأ بعد مئات السنين وبعد آلاف السنين، ولا ضير فيما أقول، فليس أول من وقع ضحية الخداع، إن الاستمرار في الطريق في تقديري الآن خطأ، وإن علي أن أختار ميداناً آخر، إن العمل بين الناس ميدان يحتاج إلى مراعاة الناس، وميدان يحتاج إلى مسايرة التيار، وأنا ليست واحداً ممن يحنون رؤوسهم للتيار، ولست واحداً ممن يرضون بأن يتركوا بعض بصماتهم على التيار، أنا – بفضل الله – من صنعة التيارات وليست أقل من ذلك في كل حال.
بعد الآن لا خطابة ولا دروس، علي واجب إذا أشكل على إنسان من أمر دينه أمر فليسألني وسأجيبه بإذن الله تعالى، وكلمة أخير أقولها: لا سيما المرحلة الأخيرة سُجلت الخطب كلها على الأشرطة، وانتشرت الأشرطة هنا وهناك في كل مكان في العالم العربي والعالم الإسلامي، ليكن واضحاً أنني لا أسمح ثم لا أسمح ثم لا أسمح ولا أحل لأحد أن يستخدم هذه الأفكار مضافة إليه، إنني كنت أعمل على إثارة الساحة وإثارة الفكر، وتأتي هنا فكرة وهناك فكرة ووعدت بأن نجرد هذه الحصيلة في المستقبل لنستخرج قواعد الحركة، وأنا أعرف أن في هذه الدنيا أناساً يأتون إلى الشيء الكامل فينتقصونه، فما بالك بالشيء الذي لم يكتمل بعد، إن الأفكار التي طرحتها جزء من عمل لا أريد ولا أقبل أن يضيفها إليه أحد لأنها لا تمثل فكرة نهائية، الفكرة النهائية لم تطرح بعد، وأنا آمل وأستعين بالله جل وعلا على أن يعينني على تسجيلها وكتابتها وإذاعتها بين الناس، هذا شيء ضروري، أشرطتي التي سجلت عليها أحاديثي ليستخدمها من شاء كيفما شاء إلا أن يقول أن هذه آراء فلان وهي ليست آرائي، آرائي لم يكمل بناؤها حتى الساعة، ومع ذلك فللشباب أن يستخدمونها كيفما شاءوا، مع زيادة هو أن الشوط الذي قطعناه أعتقد وأتصور أنه وضع في طريق المنهج لبنات، ننصح الإخوة الذين يريدون أن يبحثوا في التاريخ النبوي والتاريخ الإسلامي بعامة وحقائق الإسلام يمكن أن يستخدموها ويستفيدوا منها وأن يضيفوا إليها إن شاء الله تعالى إضافات موفقة ومباركة.
رجائي إلى الله جل وعلا أن يعينكم وأن يهدي قلوبكم وأن يوفقكم وأن يسدد خطاكم، وقلت لكم أن لا يغضب أحد، إن الأمة ليست متوقفة علي، وإذا كانت متوقفة علي فمن الخير أن تموت، إن الأمة فيها خير له أول وليس له آخر، وغاية الأمر أن نبدل ميداناً بميدان، وأما الأساس فنحن وأنتم على العهد، حياتنا ومماتنا وصحتنا وسقمنا وشبابنا وهرمنا ودماؤنا وأموالنا نرجو أن تكون لله جل وعلا... وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 847